لا نزال في بلدي مدفوعين بوعي أو دون وعي إلى ممارسة حياتنا وفق نمط استهلاكي ينطوي على خلل هائل.. نظن أن المظهر الخارجي الكامل يقود للإحساس بالرضا أو حتى بالسعادة ونستمر في الإنفاق ولا ندرك السعادة ولا تدركنا.. لا فرق بين مثقف وأمي.. متدين ومتحرر.. عاقل وسفيه.. كلنا منوَّمون مغناطيسياً للشراء، ربما كنوع من التنفيس عن إحباطاتنا أو مجاراة للعولمة أوتأثراً بدوامة الإعلانات أو هذه طريقتنا لنكون أفضل وسط ثقافة لا تهتم كثيراً بالعلم أو الإبداع أو الإنجاز. لا أدري ما المنطق الذي يفكر به الشاب الذي يتخرج من الجامعة لتوه، ويربط قدره بسيارة يفوق ثمنها ما سوف يجنيه في خمس أعوام قادمة على الأقل.. رأيت في بلدي أناساً يسكنون بيوتاً فيها من الخدم أكثر من أهل البيت ومن الغرف ما يكفي لتكون ملجأ لا عش أسرة صغيرة. في بلدي نتابع كلام الناس ورضا الناس بجنون.. ودوماً تطلعاتنا أكبر مما تحتمله حساباتنا في البنوك.. فما الحل؟ الاقتراض والإسراف فيه، ومن ثم إدمانه.. لا يستطيع البحريني أن يعيش دون أن يقترض.. للزواج، للبيت، للسيارة، لقضاء الإجازة، للتأثيث، ولإعادة التأثيث.. وشعوب كثيرة تعتمد على الاقتراض والرهن.. لكنها في الغالب تكون شعوباً منتجة تصنع صواريخ، تغزو الفضاء.. لكن في الخليج تحديداً نحن شعب مستهلك فقط.. ورغم أننا نملك المادة، فإننا لا نتمتع بذكاء اقتصادي أو حسن تدبير فنبدع في اختراع أوجه التبذير في الإنفاق ونسيء لأنفسنا وغيرنا ونكرس ثقافة مضرة جداً بمجتمعنا. ثقافة الاستهلاك والاستعراض والتباهي ننقلها من جيل إلى جيل.. وجيل وراء جيل يخرج إلى هذه الحياة أفراداً يعتقدون أن ما يرتدون ويملكون هو ما يحدد هويتهم وشخصيتهم.. لا العلم ولا التدين ولا العمل والإنجاز.. يكتفي الشاب ويكون بكامل الرضا عن حياته عندما يقتني سيارة تعطيه "برستيج”.. وتمشي الفتاة مزهوة بنفسها معتمدة على مظهرها، ويجب أن يكون كل شيء آخر موديل من الملابس والحلي وألوان التبرج وغيرها.يمكنني أن أجزم أن معظم البحرينيين يحملون أكثر من موبايل واحد.. ويسارعون لاقتناص كل عرض لدى شركات الاتصالات للهواتف والأرقام المميزة.. وكلمة اقتناص لا تعني بالضرورة الذكاء أو الشطارة.. وحدث ولا حرج عن سوق أرقام الهواتف والسيارات.. سفه حقيقي ما له حل.. انظروا فقط لمصروف الشهر في المتوسط كم نصرف منه في الأساسيات وكم نفرد للكماليات؟ ولو أردنا أن نعد كم من المال ننفق في غير موضعه على مدار العام سنجد سفهاً وهدراً لا يقل -نسبياً- عن ذاك الموجود في ميزانيات الحكومات المبذرة. نبتكر بدعاً لا معنى لها.. حفلات زواج فيها بذخ تجرمه كل الشرائع السماوية، ثم حفلات استقبال ومواليد وأعياد ميلاد.. حفلات تخرج من التوجيهي في قاعات الفنادق.. يعلم الله كيف سيكون شكل الاحتفال لو كانت الشهادة دكتوراه في علم الذره.. من يرى شعبنا وهو يحتفل ببذخ يظن أن لا فقراء في البحرين، وأن الحد الأدنى للرواتب عندنا ألف دينار.والمشكلة ليست أن يصرف المقتدر.. لكن القضية هي الثقافة التي نكرسها.. وإذا كنت أنت تستطيع، فغيرك مضطر لمجاراتك وهو لا يستطيع، فيستدين أو ينحرف.. الفقير لا يمكنه أن يعتزل المجتمع أو أن يحبس أبناءه ويعصب أعينهم فلا يرون ولا يحلمون.. الفقير يرى القصور والسيارات والإسطبلات والمجوهرات والملابس المدموغة بأغلى الماركات.. ونحن نعيش في بلد تعلمون لسنا كغيرنا من ناحية الرواتب والقدرة الشرائية.. ولا نحن ببلد مستقر سياسياً.. وأعتقد أن من حكمة ديننا أن دعانا إلى البساطة ونهى عن التباهي لأنه في النهاية مدعاة إلى إثارة مشاعر النقص والسخط في المجتمع ككل.. إن البذخ بلا مراعاة للغير والمبالغة في الإنفاق في غير مواضعه ليس سبيلاً لا لمجتمع سعيد ولا حتى مستقر سياسياً
Opinion
رأيت في بلدي «4»
30 أغسطس 2012