«لا تتكلم باحتقار عن مجتمعك، فأولئك الذين لا يستطيعون الاندماج فيه هم من يفعلون».. ما سبق واحدة من أشهر مقولات الكاتب المسرحي والشاعر الإيرلندي (أوسكار وايلد)، وتشكّل هذه المقولة إضاءة أولى لتأسيس وعي حقيقي ينطوي على وطنية ومواطنة وشعور جمعي، يكرس فينا حب المملكة والنظام والمجتمع.وفي محاولة فهم أعمق لما أسماه (وايلد) «اندماجاً»، يمكن الاستعانة بالفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع (يورغن هابرماس)، إذ قدّم فكرته حول المواطنة الدستورية التي يمكن للدولة اعتمادها للتخلص من إشكالية تعدد الولاءات داخل الدولة الواحدة، وحصرها بالولاء للدولة في رابطة فريدة موحدة، ما من شأنه الحد من التمادي في النزاع الطائفي، والذي تشكلت بناءً عليه أزمة المشهد البحريني الراهن، وفي فترة قصيرة مضت.ولعل من السُخف أن ننظر للاندماج الوطني كنوع من الانصياع لهوية موحدة تحددها الدولة بمعزل عن أبناء الوطن بما يحتويه من تعدديات وأقليات، وأن الاتفاق العام على تحديد هوية بلد ما وثقافته لا يبيح بأي حال من الأحوال إقصاء أطراف أو أقليات أخرى، على غير دين الإسلام في مملكة البحرين مثلاً، أو من أعراق لا تعود لأصول بحرينية، شأنها شأن التمازج في النسيج الوطني كبقية دول العالم.ولذلك، فإن الاندماج الوطني هو مطلب يمكن من خلاله تشكيل هوية موحدة شاملة تحمل صفات وسمات جميع المواطنين في محاولة للتقريب بين الثقافات والأفكار والاتجاهات، ومواضعة مبادئ تبلور الهوية الوطنية الأصيلة الجامعة، وفي إطار اندماج متسامح لا يقصي أحداً ولا يمسحه أياً كان دوره أو موقفه. بناءً على ذلك يستلزم على الجميع تبادل الخبرات وتقبل الهوية الجديدة بعموماتها وشموليتها، تحقيقاً لتغيير وتغير الأفراد داخل المجتمع الجديد -وبما يكفل حق الاختلاف بلا تجاوز- نحو الهوية المتفق عليها، تلبيةً للاحتياجات وتعبيراً عن كل من الصفوة والعامة والكادحين، الرجال والنساء، الأطفال والبالغين وكبار السن، بل يعبر عن جميع أطياف المجتمع، ويحتوي هوياته المتعددة بكل أطيافه وطبقاته والاختلافات الطبيعية بين مكوناته.وربما يجدر التنبه هنا، إلى أن الإشارة للقبول بجميع الأطراف، بما تحمله من تعدديات فكرية واختلافات مذهبية، لا يجب أن يكرس الفوضى كممارسة وسلوك عام في أي مجتمع؛ بل يُحرّمها وفق القوانين والثوابت الوطنية، والتي لا بد من منحها قدسية تليق باسم الوطن، بعد مواضعة هويته فوراً، أو قبل ذلك. إن القبول بالطرف الآخر ومنحه حقوق المواطنة الكاملة بما تشمله من حقوق ديمقراطية وحق ممارسة الحرية، لا يعني القبول بالتعدي على حريات الآخرين أو التعرض لهم بأي نوع من أشكال السلوك الآثم أو الشاذ -إن صح التعبير- كما إن تمام الاتفاق على ذلك وتحقيقه بشكل عقلاني ورصين، كفيل بتحقيق التوازن في كافة مناحي الحياة في المملكة؛ اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، وكذلك الأمنية.ولضمان تحقيق اندماج وطني حقيقي فاعل، علينا لزاماً البحث عن آليات ما، لخلق علاقات قائمة على التسامح، في ظل تهديد إرهابي، أنتجته فئة قليلة ليطال بقية السواد الأعظم من المجتمع، لا سيما على الصعيد الأمني؛ الأمر الذي يجعل المواضعة على هوية شاملة جامعة متسامحة أمراً مستحيلاً في الوقت الراهن. لضمان التخلص من ذلك التهديد، لا بد من نزعه من جذوره بدءاً بارتباطاته مع مرجعيات ولائية خارج الدولة، ولربما من الإنصاف في بعض الأحيان إرضاء تلك الأقلية المتمردة، بتجريدها من الانتماء المواطني لمجتمع لا تحمل الولاء إليه، في محاولة لتلبية مطالبهم وتعزيز شعورهم بالانتماء لمن استحق الولاء فعلاً – بوجهة نظرهم.لكي تتم مصالحة الاندماج الوطني، فإنه من الأفضل أن نبحث عن معنى هذا الاندماج في نماذج أكثر تطابقاً مع الوضع في البحرين، إلى جانب التعرف على الاتجاهات الحديثة المهمة التي درست فكرته وفتشت عن سبل ووسائل تحقيقه.لعل أولى الخطوات الحاسمة التي من شأنها أن تعيد تشكيل الوعي الجمعي في المجتمع البحريني، وضمان تحقيق اندماج حقيقي مستنير، هو القضاء على الطابع النزاعي الذي اتسمت به الجماعات الطائفية على اختلافها، لاسيما المتطرفة منها، فضلاً عمّا يعزز الخلاف والاختلاف الطائفي كالولاءات المتعددة التي سبق الإشارة إليها، ما يستلزم رأباً عاجلاً وناجعاً لصدع المجتمع البحريني.يلي ذلك تكاتف الجهود الوطنية التي نعوِّل عليها في كل موضع، لما لها من أهمية بالغة، لاسيما في ترسيخ مفاهيم الوطن والوطنية وغرس ثقافة الكفاح الوطني الجامع، ضماناً لتعايش حقيقي على أرضية المواطنة تتحد فيها الرموز والتعبيرات والمضامين كذلك. ولربما التأكيد على ضرورة التمسك بالجذور الممتدة إلى أعماق التاريخ الوطني، جدير بترسيخ تلك المبادئ، وتظل المسؤولية ملقاة على عاتق الجميع بلا استثناء، «فقيمة الدولة على المدى الطويل، هي قيمة الأفراد الذين تتكون منهم» حسب ما يقول (جون ستيوارت) الفيلسوف الإنجليزي الشهير. وعليه فإن إحساسنا بأننا أعضاء في المجتمع ومواطنون في الدولة، يلزمنا توجهاً فردياً وجماعياً، لأن نحقق أقصى درجات التوافق والاندماج الوطني والمجتمعي. وأخيراً وليس آخراً.. كلنا للدولة، والدولة لنا كلنا.
Opinion
الاندماج الوطني البحريني
06 أكتوبر 2012