يتكون عالمنا من مئات بل آلاف الثقافات المتوافقة في جانب، والمتداحرة في جوانبها الأخرى؛ وفقاً لخصوصياتها وعمومياتها وفروعها. وفي ظل الصراعات الثقافية والكم المعرفي الهائل، المُنصب في بوتقة الوعي الجمعي لشعوب العالم، بدعم لافت من المخ العالمي الجديد "الإنترنت”، أصبح من السهل الوصول للمعلومة وتبادل الأفكار، ومن الصعب الحصول على المعرفة والعلم الحقيقيين. فضلاً عن صعوبة تكوين شبكة ثقافية ضامنة ما، تجمع الناس بهوية خاصة ضد انفلات الهويات وتعدديتها. تمخض عن هذا، تضارب الفكر وتنوع الوعي العام في القطر الواحد أو الوحدة الجغرافية المستقلة، وأن الاستقلال السياسي أو الجغرافي أو الإجتماعي لم يعد يفضي بالضرورة إلى عقل مشترك وأسلوب حياة موحد.من هنا.. تنطلق الفكرة الداعية لتكاتف المؤسسات والجهود في إطار أعمال جادة مشتركة، من شأنها تحديد هوية الفكر القومي أو الوطني لدى أبناء شعب ما واستعادة العصور الذهبية لعقول العرب النابضة. فإننا في مرحلة انحلال فكري لا يعلمه إلاَّ الله، يجرنا لمنزلقات سطحية فكرية ينتكس أمامها رأس العلم المُكدّس بين جنبات الكتب وآفاق الكون. ولكن قوماً لا يعلمون، ولم يتنبهوا لحجم المصيبة.(فرانسيس بيكون) فيسلوف إنجليزي عُرف بقيادته للثورة العلمية، وكان بمثابة حلقة الوصل بين الماضي والحاضر، إذ انتفض على الفلسفة القديمة باعتبارها واهية، فيما أضاء كثير من تجريدها المبهم بأساليب علمية جديدة فاعلة، حاملاً لواء تمكين الإنسان من استعادة السيطرة على العالم عبر المعرفة، باعتبارها مرادفاً للقوة. ولذلك كان (بيكون) لا يرى العلم إلا بإمكانية أن يثمر أعمالاً مؤداها خلق تغيير حقيقي في حياة الناس.برأيي، فإني أتفق مع (بيكون) من حيث قوة المعرفة، ويمكن التنبؤ بتمام القوة إذا صارت المعرفة إلى أيدي الشباب؛ لكونهم الحامل الرئيسي لها عبر الأجيال المتوالدة، وبحكم ما لديهم من معرفة يمكن الإعتماد عليهم ليكونوا ركيزة أساسية للبناء الحقيقي: ثقافياً ووطنياً وسياسياً، بمعزل عن الوطنية الهتافية الغنائية والتغني بأمجاد الماضي الآفل والأجداد الأُول، نزولاً لميدان الواقع؛ ليتخلق وطناً حاضراً لا ينكفئ على تاريخ رحل. لنا حق الفخر به بعيداً عن الاتكاء على عتبات مثالب أبطاله وعلوم مفكريه، وتأمل مستقبل مشرق بنور الماضي وكأن شيئاً لم يتركه الأقدمون ليفعله أبناء هذا الجيل، وما بعده، وما بعدهما.التعويل على الشباب قائم من منطلق القوة التي يمتلكونها دوناً عن غيرهم، إذا ما استجمعوا إرادتهم وتخلوا على التخثر المعرفي وبلادة طلب العلم، الدعوة هنا لوعي عام ديدنه الشباب، لاسيما في ظل غياب المشاريع الوطنية لجوهر المعرفة لا قشورها. والكل في غفلة جرّت إليها أحداث الربيع العربي، أو لمزيد من الإنصاف.. جرّت إليها الخيبة في سنوات طوال مضت، ويبدو أن أحداث الربيع العربي شمّاعة ضخمة تليق بحجم الإخفاقات، وإن كانت محوراً رئيسياً وفاعلاً في تحول فكري أعاد الحياة من جديد، وأفرز صحوة شعوب لطالما استلذت الكسل والخنوع والتبلد حتى داهمها الغزو بضروب عدة من كل صوب وناحية، فأغرق العالم في دوامات متتالية ليس له أن يفيق منها إلاَّ محطماً يائساً، أو بطلاً ناشطاً في ذات ميدان، ولم يترك عالم اليوم مكاناً للأول، فيما حارب الآخر ليثبت المزيد من مقومات استحقاقه للحياة.ومتى ما أراد الشباب أن ينفض غبار القحط العقلي ويتخلى عن أسمال الخطيئة، خطيئة مجتمع نأى عن الفكر والوعي، حتى جاءته ضربات متلاحقة أدرك عبرها قيمة أن يكون المجتمع -في كل حين- متسلحاً بالعلم والوعي والفهم، متى ما قرر الشباب وبدعم ممن سبقوهم، تمكنوا من استجلاب عالم المستقبل بمزيد من التحمل والصبر على وعورات الطريق ومنعطفاته، سيمر جميع الأزمات بسلام، بعقل مستنير يخاطب بالحجج ويقدم البراهين ويفعل المستحيل، بدلاً من الضمور والسخط وإلقاء اللوم على الآخر، واستخدام حيل الضعفاء بالجعجعة والتراشق بالألفاظ وغيرها.البحرين.. أحوج ما تكون في ظل ظروف محلية وإقليمية إلى ثقافة ووعي شبابي حقيقي ومستنير، فهل ستكفل الدولة ذلك؟! وإن لم يكن.. فالشباب هم المحرك الرئيس لديمومة العمل الفكري والوطني والسياسي. فقط انتفضوا على أنفسكم، وأبدأوا العمل.. من جديد.