من الواضح أنه لم يعد من الممكن قمع التطلعات المشروعة للشعوب في الحرية والعدالة والكرامة وحقها في المشاركة في رسم مصيرها ومستقبلها. ومن الواضح أيضاً أن أي سلطة مهما امتلكت من مصادر ومظاهر القوة المادية والمعنوية لم يعد بإمكانها منع الناس من حقهم في التعبير عن تطلعاتهم المشروعة والمشاركة في بناء أوطانهم والتأثير في بنيانه السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما يعود عليهم وعلى أولادهم بالخير والنماء والاستقرار.هذا هو الدرس الذي يجب استخلاصه من الانتفاضات والهبات الشعبية العربية وغير العربية، ولا يمكن أبداً أن يتم القفز على هذه الحقيقة المؤكدة أو مناورتها بالوسائل التي تضيع الوقت وتحول دون الإصلاح والرشاد السياسي والقضاء على الفساد.في المقابل، فإن ركوب هذه التطلعات من مجموعات حزبية واستغلالها فئوياً (طائفياً أو سياسياً) لتحقيق مآرب ضيقة على حساب الشعب وعلى حساب مصالح الوطن، هو أيضاً انحراف خطير وكارثي، لعله أخطر في نتائجه وتأثيره على الشعب من تسلط السلطة نفسه، لأنه مغامر وفوضوي وأناني.فإذا كانت السلطات -في سبيل حفاظها على وجودها وتأثيرها وشرعيتها تحاول قدر الإمكان الموازنة بين تلك المصالح وبين الاستجابة للتطلعات الشعبية- فإن المعارضة المغامرة غير الرشيدة- تتلاعب بعض أجنحتها المتطرفة بمستقبل الشعب والبلد- بل ولا يبدو أنها معنية بالإصلاح والديمقراطية أصلاً، بقدر اهتمامها وعنايتها الأنانية بالوصول إلى السلطة مهما غلا الثمن، ولو على حساب المواطنين استقرارهم وأمنهم ومعاشهم ومصالحهم العامة والخاصة، ولو على حساب استقلال الوطن وسيادته الحرة، بالتحالف مع القوى الإقليمية أو الدولية المعادية والتي تعلن صراحة وبشكل علني مطامعها في الأرض الوطنية، دون أن تولي هذه المعارضة أي اهتمام بمثل هذا التهديد للاستقلال الوطني ومخاطره الجمة التي قد تمهد لابتلاعه من قبل القوة الإقليمية الأكبر الطامعة، أو الهيمنة عليه فيما يشبه الاستعمار غير المباشر ليكون البلد مجرد حديقة خلفية لهذه القوة الطامعة.نعم الحل هو في تعميم الديمقراطية، والحل في الاستمرار في بناء الإصلاح المتوازن الذي يراعي مصالح كافة الأطراف والقوى الوطني والاجتماعية، والإصلاح يظل مرتبطاً بالضرورة بالديمقراطية بما فيها من إنسانية أو أنسنة ما زالت تواصل تطورها على طريق المواطنة، ما يمكن كافة المواطنين بمن فيهم الفقراء والمهمشون من أن يشعروا بوجودهم وفاعليتهم من خلال تمتعهم بحرية التعبير عن ذاتهم وعن تطلعاتهم، نعم، ولكن يجب أن تتم هذه العملية بأقل الأثمان وأفضل الطرق، من خلال دور العقلاء الذين يديرون المعركة من أجل الحرية والمشاركة، وتحقيق الربح بمعناه الوطني العام، ويجب أن لا يكون هؤلاء مستعجلين ولا طالبي سلطة، ولا يجب أن يقفزوا فوق المراحل، بل عليهم أن يشجعوا السلطة على المضي قدماً في الإصلاح (ولم لها التعاون معها من أجل تحقيق ذلك حتى يكون الإصلاح هدفاً وطنياً مشتركاً) بما يقلل من حجم الخسائر ويزيد من حجم الأرباح، وهذا أمر يتطلب المزيد من الصبر والتأني والعقلانية، التي نراها مفقودة أو محدودة في الخطاب والممارسة إلى حد اللحظة.إن المعطيات الإيجابية، التي قد تشكل أسباباً مفترضة للإسراع والنجاح في إنجاز المطالب وفي مقدمتها بناء وتعزيز الدولة المدنية التعددية على أساس المواطنة والقانون وحقوق الإنسان كثيرة ومبشرة، ولكن عندما تتحول المزايدة إلى هلوسة، ويتحول خلط الأوراق إلى أسلوب حياة، والتهريج إلى بديل عن العمل السياسي والدستوري المشروع، ويتحول خبط العشواء إلى ثقافة سائدة، تكون الفوضى هي النتيجة الحتمية لأي فعل ورد فعل، ومؤشراً على وجود مشكلة ما في مكان ما.إن الديمقراطية تعني في أبسط معانيها الأكثر تداولاً هي تطبيق القانون والالتزام بتطبيق القانون حتى في حالة الطوارئ، هكذا يقول لنا التاريخ القريب والبعيد، وهذا ما تقوله لنا الديمقراطيات العريقة، أما أن يصبح تجاوز القانون أو تجاهله أو التحايل عليه، أو التحريض ضده نهجاً يتبناه السياسي والكاتب والبرلماني والحقوقي والموظف، فتلك مصيبة تجعل من شعار القانون مجرد شعار بدون مضمون، أو مجرد مضمون محاصر بين قوسين.^ همسة..ليس بالقانون تدار الدولة فقط، بل بالسياسة أيضاً، وبروح التسوية والوفاق الوطني لا بد من أن نتشاءم حين تُفقد روح التسوية وعندما تتسابق الأطراف السياسية من أجل مكاسب سريعة وجزئية وهامشية على حساب المصلحة الكبرى، مصلحة الجميع في أن يشكلوا مجتمعاً سياسياً متناغماً وتوافقياً.