اسمحوا لي أصحاب مبادرات الاندماج ومبادرات المصالحة ومبادرات إعادة اللحمة الوطنية؛ فالبحرغزير عليكم!!عزلة القرية وانفصامها عن الدولة مرض عضال، تشوه خلقي كبير وإعاقة مضاعفة، أهملت الدولة علاجه منذ ثلاثين عاماً، ولم تنتبه لخطورة ما يحدث في الداخل، وما تقومون به الآن من مبادرات جميلة لا تزيد عن مجرد ترقيع جلدي خارجي لا يصلح المعوج والمفكك. المبادرات و(أغلبها سنية على فكرة) لا يمكنها أن تعالج أزمة القرية البحرينية، الأزمة أكبر من ذلك بكثير وتحتاج لرؤية شمولية، رؤية تغوص في عمق فكر وثقافة العزلة التي حدثت، رؤية تعرف ما ستواجهه بالداخل قبل أن تحاول فتح الباب.في القرى المعزولة الآن الجيل الثاني من أبناء (حزب الدعوة وحزب الله والشيرازيين)، وهي أخطر ثلاثة أحزاب تواجه أي دولة في العالم، أحزاب عشعشت ونمت وترعرعت فكراً وتنظيماً داخل القرى في غياب تام عن الدولة، تلك أحزاب تسعى في عقيدتها لإقامة دولتها بعد هدم ما هو قائم، أحزاب لها امتدادات خارجية وشبكة عنقودية متشعبة في كل أنحاء العالم.ونحن اليوم في البحرين أمام الجيل الثاني من تربية تلك الأحزاب، الجيل الثاني الذي انتزع من الدولة بكل مكوناتها، فلا قانون، ولامؤسسات، ولاشركاء يعترفون بهم، وقد تأخرت الدولة حتى وصل المرض العضال الى هذه المرحلة الخطرة. الدولة اليوم تواجه عشرات الآلاف من أبنائها يعيشون صراع وأزمة هوية، لا يفرقون فيها بين الدولة والوطن، لا يفرقون بين الحكومة والوطن، لا يعرفون الحدود بين المشروع والمحرم في علاقة الفرد بالدولة، وتلك هي أخطر وأكبر أزمة تواجهها أي دولة في العالم، حين يكون سوسة نخرها من الداخل متضافرة مع جهود خارجية تسعى لاحتواء هذه الدولة، فما بالك والبحرين الدولة الصغيرة الوادعة. يحتاج الأمر أن تجلس قيادات الدولة مع سلطاتها الثلاث وترسم للسلطة التنفيذية استراتيجية شاملة تقوم بتنفيذها كافة مؤسسات الدولة الرسمية بالتعاون مع المؤسسات الأهلية المدنية لإخراج تلك القرى من مخالب تلك الاحزاب، وتفكيك خيوطها وشبكتها المحلية أولاً حتى نمنع استغلالها دولياً.نحتاج أن نملك رؤية شمولية تؤتي أكلها ربما بعد عشر سنوات لإخراج القرية من عزلتها وإعادة دمج أبنائها مع شركائهم في الدولة وإعادة ترميم العلاقة بينهم وبين البنية الوطنية، وذلك يحتاج لتضافر الجميع ويحتاج لجدول زمني ويحتاج لمتابعة دورية ويحتاج لرقابة شعبية. الدولة بحاجة لدراسة البيئة التي سمحت لهذه الاحزاب أن تتمدد حتى تعرف كيف تتخلص منها وتعيد تأهيل البيئة من جديد.الإسكان، وزارة التربية والتعليم، المؤسسة العامة للشباب والرياضة، التلفزيون والإذاعة، الأوقاف، البلديات، الاشغال، الثقافة، الخارجية، الداخلية.. إلخ، كل هؤلاء كانوا جزءاً من المشكلة وعليهم اليوم أن يكونوا جزءاً من الحل، وذلك بتقديم مرئياتهم لفتح القرية من جديد وإعادة دمج أبنائها من جديد مع الآخرين، وكلهم بحاجة لأن يعرفوا ما الذي سيواجهونه وما هو حجم العوائق والممانعة، باختصار لابد أن تعرفوا حجم التغول حتى تعرفوا كيف تفككونه.لأعطي مثالاً بسيطاً على ما أقول؛ أغلب المدارس الحكومية بيئة خصبة للانعزال، فالمدارس الشيعية مغلقة عليهم والسنية مغلقة عليهم، والمدارس المختلطة بدأت تقل نسبتها قياساً بالمدارس المنفصلة.. لماذا؟ لأن التوزيع الإسكاني لوزارة الإسكان لم يراعِ الدمج الطائفي، فجاءت مناطق سكنية مغلقة، وبالتالي أصبحت المدارس -وفقاً لهذا التوزيع الديمغرافي- مدارس مغلقة على كل طائفة كما هي مناطقهم السكنية مغلقة على كل طائفة، أجيال تتربى منعزلة عن بعضها البعض، منعزلة ثقافياً منعزلة اجتماعياً منعزلة وطنياً!! لم تضع الدولة في اعتبارها تبعات تلك السياسة الإسكانية، إنما قامت بحسن نية بغلق المجمعات السكنية على الجماعات السكانية فكانت العزلة تحصيل حاصل.وأتعتقدون أن وزارة كالأشغال مثلاً ليس لها علاقة بعزلة القرية؟ بل لها علاقة، فتخطيط الشوارع والطرقات ساهم هو الآخر بإغلاق القرى فانغلقت جماعاتها كما انغلقت شوارعها.. و هكذا ساهمت كل وزارة وكل مؤسسة بوعي وبلا وعي، بقصد أو بلا قصد، ساهمت في غلق وعزل للجماعات السكانية عن الشراكة الاجتماعية وعزلها عن الدولة اجتماعياً.وعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة وجدت تلك الأحزاب المعادية لكيان أي دولة -إلا دولة الفقيه- البيئة المناسبة لها كي تنشر فكرها، والأخطر أنها وجدت البيئة التي تمكنها أن تبني تنظيماتها الحزبية وتتبنى أبناء هذه المناطق المنعزلة التي لا يجد أبناءها متنفساً إلا داخل تلك السراديب التي نجحت في استقطابهم لها.ثم جاءت السنوات العشر الأخيرة وأغمضت الدولة عيونها تماماً وتراخت بتطبيق القانون فتمدد من أراد التمدد براحته، تمدد مادياً دون رقابة الدولة، وفكرياً دون رقابة، وتمرداً على القانون والدولة لم تحرك ساكناً، فتلك الأحزاب امتحنت قوة الدولة واختبرتها في أكثر من موقع خلال السنوات العشر الأخيرة فوجدتها ضعيفة، وجدتها دولة تركت القانون كي ينتهك ويعبث فيه ولم تتحرك حتى اطمأنت.. فأشهر مربو هذا الجيل المنسلخ عن الدولة عن أنفسهم من على منابرهم الدينية وبدأوا يعملون تحت سمع وبصر الدولة الضعيفة المتراخية، وأصبح كل واضع للعمامة هو إنسان خارج نطاق التغطية القانونية وفوق الدولة التي داسوا على قانونها وعلى مؤسساتها بلا رادع، فجاء 14 فبراير تحصيل حاصل، خميرة جاهزة تم تشكيلها على مدى ثلاثة عقود داخل القرى المعزولة مدارسها وشوارعها ومؤسساتها ومآتمها.وعلى فكرة حتى حين بدأت الدولة تمد خدماتها للقرية من بنية تحتية وخلافه في السنوات العشر الأخيرة، لم يكن ذلك ضمن استراتيجية انفتاح القرية وتخليصها من نير الاستعباد الديكتاتوري لتلك الأحزاب الدينية، بل كان ضمن مخططات إنشائية يغيب عنها تماماً حجم الأزمة التي تختمر في الداخل.لم نستوعب الصلة بين ما يحدث داخل القرى والمتغيرات الإقليمية من حولنا، ولم ننتبه للعلاقة بين ما يحدث في القرى وبين مخططات القوى العظمى لنا، رغم أن مؤشراتها كانت واضحة ولكننا وضعنا حسن النية في غير موضعها، وتهاونّا في أمن الدولة وسلامتها، فأصبحت البحرين بيئة خصبة لكل طامع باختراق هذه الدولة الضعيفة، فهناك الآن أجيال منسلخة عنها لا تمانع أن تضع يدها في يد من يساعدها على إتمام مهمتها بهدم الدولة.هذاهو(الغول) الذي تواجهه الدولة، وهو كما ترون أكبر بكثير من تلك المبادرات الحسنة النية، التي نؤكد أننا لسنا ضدها، لكننا نتحمل كمراقبين مسؤولية وضع الدولة أمام مسؤوليتها الجسيمة الملقاة على عاتقها والمساءلة عنها.^ ملاحظة.. إلى محترفي الصيد في الماء العكر.. إلى المستفيدين من عزلة القرية.. ما كتبناه لا يحمل ذرة إساءة لأبناء القرية، بل هو تشخيص لمرض أصاب جزءاً عزيزاً من بدننا، ولهذا تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.