إن النهار، بحسب المثل المصري الشائع، له عينان، والصباح أكثر حكمةً من المساء، والمختصّون في علم الأعصاب يؤيِّدون مثل هذا التشخيص العفوي، فثمّة أمثلة كثيرة تدلِّل على أن حّل المسائل المعقّدة يظهر بعد ساعات عدّة من النوم الهادئ، وأن الاكتشافات العلمية والأفكار الإبداعية "تنضج” في أذهان العلماء والمثقفين في أثناء الغفوة القصيرة، ومع ذلك تبقى مسبِّبات ما يُدعى "بالنبوغ الليلي” لغزاً محيِّراً للعلماء، حيث أكدّت أبحاث المختصِّين في دراسة العقل البشري بجامعة كاليفورنيا الأمريكية أن حّل المعضلات الملحّة غالباً ما يحصل أثناء النوم، وتحديداً في فترة الحركة السريعة للعينين، حيث يقوم الدماغ، في هذه اللحظة تحديداً، بتشكيل روابط منطقية جديدة غير مألوفة بين أجزائه، ولسوء الحظ فإن النوم العميق السريع أو النوم المتواصل أكثر من اللزوم يمكن أن يفسد هذه العملية، ويذهب حينها نشاط المخ أدراج الرياح.إن جميع الوقائع المرتبطة بالاكتشافات الكبرى، والتي تمت في فترة الحلم، ليست مجرّد قصصاً مسلِّيةً، بل حقائق واقعية دامغة. وأبرز مثال على ذلك هو الفسيولوجي الألماني الأصل أوتو لوفي الذي حاز على جائزة نوبل عام 1936 لقاء إسهامه الرائد في علم الأعصاب، فقد حاول لوفي، طيلة أعوامٍ ممتّدةٍ، أن يصوغ نظريةً صارمةً تعينه على توصيف العمليات الجارية داخل الدماغ، غير أن الإلهام باغته في منتصف الليل، ففّز من فراشه متشنِّجاً، وصار يكتب في المذكرة ما شاهده في الحلم، لكنه عجز في الصباح عن استيعاب ما استطاع تدوينه، حيث كانت المذكرة حبلى بالرموز المجهولة، إلا أنه في اليوم التالي شاهد مجدداً في المنام حلاً لمعضلته، وحينما أفاق تمكّن من فهمه وتدوينه على الورق. والحِلم أيضاً هو الذي أوحى للكيميائي الروسي الكبير ديمتري منديليف، واضع الجدول المعروف باسمه، بكيفية ترتيب العناصر بالجدول المذكور. أتصوّر أن سرّ النبوغ الليلي يكمن في أن القيلولة تمثِّل فرصةً ذهبيةً للنابغة للتفكير في كيفية حسم الصراع بين الذات والبيئة، وهو المصدر الأساسي للنبوغ، والذي يمكن أن يتم عن طريق إشباع الحاجة الفردية للتوّصل إلى حلِّ ما للمشكلة العالقة بذهنه في حالة اليقظة، مِّما يؤدِّي إلى توليد الأفكار الخلاّقة التي تضيء الدرب أمام الإبداعات والابتكارات العلمية الرائعة!
Opinion
الغفوة القصيرة تولِّد الإبداع
18 أغسطس 2012