يعج أدب السياسة العربي بكثير من الكتابات عن مقومات الوحدة العربية، وتكتظ كتبه بالحديث عن تلك العناصر الإيجابية التي تدفع المنطقة العربية نحو الوحدة سواء على المستوى الحضاري أو الديني أو ذلك الثقافي. ورغم رجحان عناصر التوحيد العربية، كما تحاول تلك الاجتهادات أن تثبت، لكن ما يشاهده المواطن العربي على أرض الواقع وعبر المسيرة التاريخية للبلاد العربية مخالف لما جاء في تلك الأدبيات وما حوته تلك الكتب، والتي يغلب عليها التشدق بإنجازات الماضي على طريق التوحد العربي أكثر من استشهادها بما هو قائم اليوم. ما تجدر الإشارة له هنا هو تلك الانتقائية التي تستحوذ على نسبة لا يستهان بها من تلك الأدبيات التي تريد إبراز قوة حضور النزعة الوحدوية عند شعوب المنطقة العربية من خلال تضخيم صورة أي مظهر من مظاهر التوحد، مهما قصر زمنه وقزم رقعته الجغرافية ومحدوديتها، مما حول الوحدة العربية من مشروع سياسي اقتصادي متكامل يدرس في المؤسسات الأكاديمية كنموذج يمكن الأخذ به والاحتذاء بخطواته بعد استخراج العبر من أخطائه وتعزيز الجوانب الإيجابية المضيئة فيه، إلى مجرد أمنيات يتغنى بها الفنانون العرب ويرددها وراءهم تلك الملايين التي لا تستطيع أن تعيش خارج إطار الحلم الوحدوي، أو أن تتمرد على بعض مسلماته التي أصبحت اليوم بحاجة إلى إعادة قراءة من زوايا مختلفة، ومن منطلقات جديدة مغايرة لتلك التي نتحدث عنها. يتحاشى من ينبري للحديث عن الواقع العربي الخروج من أسر تلك الأحلام وتمزيق نسيج شرنقتها، كي يرى ذلك الواقع على حقيقته بعين موضوعية نقدية، بعيداً عن طلاءات التجميل التي تخفي وراءها حالة التمزق العربية القبيحة، وبالتالي خلت الأدبيات من دراسات جادة شجاعة تتوقف عند محطات التمزق العربي وتحاول قراءتها من منطلقات علمية محضة، تشخص تلك الحالات التجزيئية وتفتش عن الأسباب الداخلية الذاتية التي غرست بذرتها، وما تزال تفعل فعلها وبقسوة ضارية، ضاربة عرض الحائط كل المشاعر التي ترفض الاعتراف بهذا الواقع المر، وتصر على التمسك بأهداب الوقع الوحدوي الذي تحلم به، وتحاول أن تعيش تداعياته في تصوراتها الذاتية. تأسيساً على ذلك وانطلاقاً مؤمناً بإمكانية بناء مشروع وحدوي عربي معاصر؛ نرى أن الخطوة الأولى الأكثر أهمية على طريق تحقيقه ينبغي لها أن هي أرادت أن تكون مجدية أن تقوم على تشخيص العوامل التي وقفت، وما تزال تقف وراء حالة التمزق التي أشرنا لها، ومن الصعب إنكارها منبهين إلى أن بعض تلك العوامل يفترض فيها أن تكون من بين عناصر التوحيد، لكنها تاريخياً ما تزال اليوم تنضوي تحت مظلة بنود قائمة التقسيم. أول تلك العوامل هي الذهنية القبلية التي ما تزال تسيطر على السلوك السياسي العربي، هذه القبلية تصر على أن تطل بوجهها القبيح وبشكل متواصل متخفية في صور تمويهية متعددة، بما فيها الأيدلوجية المعاصرة التي تخفي تحت أرديتها تلك النزعة المناقضة لحركة التاريخ وتطور المجتمعات الحديثة. هذه القبلية ليست كما يتوهم البعض محصورة في أذهان العرب من سكان المجتمعات العربية المصنفة أنها تحت الحكم القبلي، بل تجاوزت ذلك كي تصل إلى القوى السياسية العربية بما فيها تلك التي تحمل الفكر السياسي الحديث والمعاصر. فقد شاهدنا تمزقات حزبية عصفت بأحزاب عربية عريقة تأخذ بالأيدلوجية العلمانية، لكنها لم تستطع أن تنزع من تصرفات أعضائها جذور سلوكهم القبلي. شهدنا ذلك في اليمن وفي المغرب بل وحتى في مصر. العصبية الدينية، سواء بين الأديان السماوية المختلفة أو في نطاق الدين الواحد منها، بما في ذلك الدين الإسلامي الحنيف. فحتى اليوم ورغم انتشار التعليم الحديث في البلدان العربية كافة منذ ما يزيد على النصف قرن، لكن ذلك لم يكن كافيا كي يزرع سلوكاً دينياً حضارياً معاصراً يقوم على الاعتراف بالآخر، واحترام معتقداته والتعايش السلمي معه. تحول التنوع الديني الذي تنعم به المنطقة العربية، بوصف كونها مهبطاً للأديان السماوية الثلاثة، من أحد مكونات للتوحيد والبناء، أي عامل للتمزيق والهدم. وقفز التباين الديني من خانة الاختلاف السلمي إلى مربع التناحر الصدامي، مما أفرز بغض النظر عن نوايا القوى المتصارعة مناخاً نموذجياً للتمزيق بدلاً من التوحيد. الأمر ذاته ينطبق على الدين الواحد، حيث شحنت الطائفية المذهبية المنتمين لها بطاقة متنامية من الحقد الذي حلت مكان جهود التوحيد أو حتى التآلف ضمن المذهب الواحد. ولا شك أن واقع الصراعات اللبنانية الداخلية التي اندلعت منذ العام 1975، هي المثال الأكثر وضوحاً الذي يؤكد دور التنازع الطائفي المذهبي في غرس نطفة تمزيق المنطقة العربية ورعايتها كي تلد طفل التشظي العربي وتتولى رعايته، وتضمن استمرار سلوكه السلبي المناهض لأي شكل من أشكال التوحد العربي. التطرف القطري، وهو ظاهرة جديدة انبثقت مع مجيء الاستعمار وتوطنت حتى بعد رحيل الاستعمار التقليدي الذي تركها وراءه، بعد أن نجح في غرسها عميقاً في التربة العربية، وسقتها مياه الاستعداد الذاتي العربي العفنة. هنا تم الزواج السلبي بين المصالح الاستعمارية القائمة على سياسة «فرق تسد»، والاستعداد ذاتي العربي الذي تقبل تلك السياسة ورضعها بنهم شديد، وحولها إلى كيانات سياسية متناحرة، شهدت حروباً ضارية بين بعضها البعض، وأشادت جدران سميكة عالية مزقت خارطة الوطن العربي، وحولته إلى فسيفساء سياسية، ترفض أي مشروع وحدوي عربي. انتقلت تلك الظاهرة كي تصل حتى إلى الحزب السياسي الواحد، ولعل النزاعات التي قامت بين فرعي حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق، هي أكبر دليل على صحة ما نتحدث عنه من هذا التطرف القطري الذي نتحدث عنه. المصالح الاقتصادية الضيقة غير القادرة على رؤية الصورة كاملة من زاوية متسعة. فوجدنا التنافس الاقتصادي بدلاً من أن يكون عامل توحيد ينظم السوق الداخلية وينسق خطى الجهود الدخول إلى الأسواق الخارجية يصبح عامل تشتيت وتكالب بين الدول العربية. وأكبر دليل على هذا التنافس غير المتحضر هو ذلك القائم بين الدول العربية المصدرة للنفط، وعلى وجه الخصوص تلك المنتسبة لعضوية « الأوبك»، التي وجدناها لأسباب سياسية في بعض الحالات ومبررات اقتصادية في حالات أخرى، تخوض حروباً حدودية فيما بينها، ليس هناك ما يمكن أن يفسرها سوى تلك الخلفيات الضيقة الأفق غير القادرة على فهم آليات سوق الاقتصاد الحديث القائمة على الكتل السياسية الكبيرة بدلاً من الجزر القطرية الصغيرة. قد تبدو كل هذه الأمثلة والحقائق متشائمة، ومن شأنها أن تثير اليأس في نفوس البعض، لكن أولى خطوات العلاج هي تلك التي تشخص المرض على نحو واضح، ومن خلال المصارحة مع الذات، وكل ما هو خلاف ذلك، سيكون عبارة عن جهود مهدورة، ربما تقود إلى نهايات مؤسفة.
Opinion
مقومات التجزئة العربية
17 أكتوبر 2012