سأترك الحديث عن قرار وزير الداخلية البحريني بشأن «وقف» المسيرات إلى الجزء الثاني من هذا المقال؛ إذ سأستعرض أولاً موقفين بريطانيين «رسميين» يبعثان على الاستغراب والضحك في نفس الوقت، ويكشفان كيف تمنح القوى العظمى لنفسها الحق في التدخل بشؤون الآخرين وممارسة «الفلسفة» والتنظير وتصدير «الأوامر»، في حين أنها نفسها تخالف ما «تتفلسف» به إن جاءت الأمور على حسابها.يوم الثلاثاء، وبمجرد أن خرج وزير الداخلية الشيخ راشد بن عبدالله ليعلن عن «حظر» تنظيم التظاهرات، خرج وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا البريطاني إليستر برت في تصريح عاجل يقول فيه: «إننا قلقون بسبب قرار حكومة البحرين حظر المظاهرات والتجمعات حتى إشعار آخر».في بقية التصريح ورغم قوله: «نتفهم القلق الذي ينتاب الحكومة في البحرين حول حفظ القانون والأمن خاصة عندما تواجه مظاهرات شديدة العنف، ولكن الحظر بهذه الطريقة يأتي بشكل مبالغ»، إلا أنه أعرب عن أمله «بأن تقوم الحكومة البحرينية بإلغاء هذا القرار بأسرع ما يكون». وفي سياق غريب طالب الوزير المعارضة بأن تكف عن القيام بأعمال عنف خلال المظاهرات، قائلاً بأن أعمال العنف ستلقى استهجاناً عاماً من جانب أفراد الشعب في البحرين.الآن نأتي لـ»نفصفص» كلام إليستر، إذ المفهوم منه التالي:- بريطانيا «تتفهم» وضع حكومة البحرين بشأن حفظ القانون والأمن. أكيد بريطانيا ستتفهم، مثلما جعلت العالم يتفهم ما قام به رئيس وزرائها ديفيد كاميرون من إجراءات صارمة شديدة بشأن أعمال شغب لندن.- قبل ذلك بريطانيا قلقة من القرار! وهنا نستغرب القلق من معالجة الفوضى والعنف، إذ هل نسي إيستر بأن مواطناً بريطانياً قُطعت أصابعه في البحرين بسبب أعمال العنف الناتجة عن التحريض في هذه المظاهرات؟! - إليستر يعترف بأن البحرين تواجه مظاهرات «شديدة العنف»، ويعترف بأن «المتظاهرين» يقومون بهذه الأعمال خلال المظاهرات، وطالبهم بالكف عنها. طيّب، أنتم تعرفون كل ذلك، فلماذا القلق، ولماذا الأمل بأن يتم إلغاء القرار سريعاً؟! أليس واضحاً لكم أن شعارات الحرية والديمقراطية والتعبير عن الرأي تحولت لمبررات تستغل ورداء يغطي الإرهاب والتخريب والعنف؟!- أما القول بأن هذه الأعمال «ستلقى» استهجاناً عاماً من جانب أفراد الشعب في البحرين، فللمعلومية فقط بأنها لقيت منذ زمن ومازالت تلاقي استهجاناً، ووصلت لدفع الناس لمطالبة الدولة بأن تضع حداً لهذا الانفلات وإلا ستصل الأمور لدرجة التصادم في الشارع. بالتالي على البريطانيين معرفة ما يحصل بالضبط في البحرين، لا من جانب الإرهابيين الذين «يقلقون» على حرياتهم في التخريب، بل في جانب المواطنين المسالمين المتضررين.الغريب أنه بعد قراءة هذا التصريح البريطاني «القلق» بشأن البحرين، نستذكر موقفاً سبقه بأيام قليلة تمثل بموافقة وزير الدولة البريطاني لشؤون الهجرة والعدالة الجنائية ديميان غرين على طلب شرطة العاصمة حظر تنظيم سلسلة من المسيرات في شرق لندن من قبل «رابطة الدفاع الإنجليزية» بسبب مخاوف من وقوع فوضى خطيرة، حيث كان مقرراً القيام بالمسيرات السبت الماضي.هيئة الإذاعة البريطانية الـ»بي بي سي» بينت بأن قرار الوزير حظر القيام بمسيرات في المناطق المعنية لمدة 30 يوماً، وأنه برر موافقته بقوله التالي: «أعطيت موافقتي على حظر جميع المسيرات بعد النظر بعناية بالجوانب القانونية لحقوق الاحتجاج مع الحاجة لضمان حماية المجتمعات المحلية والممتلكات».ولمعلوماتكم فقط، فإن السلطات الأمنية البريطانية اعتقلت 52 عضواً في رابطة الدفاع الإنجليزية وعلى رأسهم زعيمها ستيفن لينون قبل قيامهم بمظاهرة في شرق لندن الأسبوع الماضي.في مفهوم إليستر بأن وزير داخلية البحرين «غلطان» في القرار، لأنه سبب لبريطانيا العظمى القلق، طيّب، هل الوزير غرين «غلطان» في مفهوم بيرت؟!قبل أن يأتي إليستر وغيره ليتحدثوا بشأن البحرين، وهم من لا يعانون مثلما يعاني أهلها من الإرهاب والعنف، وقبل أن يمارسوا مزيداً من «الفلسفة» علينا، ليخبرونا عن موقفهم بشأن الإجراءات التي يقومون بها في بريطانيا نفسها، وهل «يقلقون» بشأنها مثلما «يقلقون» بشأن مثيلتها في البحرين؟!موقفه مثل مواقف السفير الأمريكي في البحرين. الأخ كرايجيسكي قبل أسابيع حاول «التفلسف» على بحرينيين في مناسبة، وقال لهم بأنه يجب إغلاق سجن «جو»، متناسياً بأن بلاده تمتلك أعظم معتقل في العالم (غوانتنامو)، وأن رئيسه وعد بإغلاقه قبل أربع سنوات، وحتى الآن مازال وعده في عداد «الأكاذيب الانتخابية»، والجيد أن أحد المتواجدين ذكره بذلك مطالباً إياه بتطبيق «فلسفته» على بلده، قبل أن «يكرمنا» بفلسفته بشأن البحرين.الآن نعود لقرار وزير الداخلية ونقول، بأنه -أي القرار- بشأن «وقف» وليس «منع» المسيرات المختلفة حتى إشعار آخر وتحديداً حتى استتباب الأمن في البلاد، هو حق أصيل للدولة بهدف تعزيز الأمن المجتمعي والسلم الأهلي بعدما «انفرط» العقد بشكل مهول، وتحولت البحرين إلى مسرح لعمليات الإرهاب واستهداف الآمنين ورجال الأمن تحت ذريعة الديمقراطية وحرية التعبير.ما صدر عن الوزير قرار صائب، بخلاف أنه جاء متأخراً، وبعد أن «بح» صوت الناس بشأن الإرهاب الناجم عن التحريض والتحشيد وبث روح الكراهية والعداء للدولة وللمكونات الأخرى في التجمعات العديدة التي تدعو لها المعارضة الراديكالية، وعبر الخطابات الدينية المتطرفة التي شهدت دعوات صريحة حتى لقتل الشرطة. لا تنسوا أبداً «اسحقوهم»، والتي وضعت الوفاق في مأزق مع المرجعية السياسية الأمريكية.الغريب أن كثيراً ممن لا يعترفون بالدولة أصلاً، وطالبوا بإسقاط نظامها، ومازالوا يحرضون عليها ويشوهون صورتها في الخارج والداخل، الغريب أنهم الآن يتحدثون بلسان حال القانون والدستور اللذين لا يعترفون بهما من منطق أن الإجراء مقيد للحريات ويسيء للديمقراطية.السؤال يوجه لكم في الأساس، وهل فكرتم في حريات الناس، حينما حولتم هذه المسيرات والمظاهرات إلى وسائل لـ«التعدي» على حريات الناس، وحينما تحولت إلى وسائل تحريض تقود لممارسات إرهابية تعدت على «حقوق» الناس في العيش بسلام وأمان؟!أي حرية هذه التي تطالب بـ»ترك الحبل على الغارب» للإرهاب؟! أي ديمقراطية هذه التي «تبيح» استخدام المولوتوف؟! بل أي حقوق هذه التي تجعل قتل رجال الأمن واستهدافهم «حرية تعبير»؟!لا نتمنى الشر لأحد، لكننا سننتظر يوماً آخر مثل «شغب لندن» و»احتلوا وول ستريت» لنرى كيف يتصرف «الفلاسفة» البريطانيون والأمريكان إزاءها مع مراعاة معايير حقوق الإنسان، وليتها تتضمن «مولوتوفات سلمية» حتى تستفيد أجهزة الأمن في البحرين منكم في شأن التعامل معها.«خوش شيء»، خلهم يحرقون البلد ويقتلون الناس بذريعة «حرية التعبير»!