يقول الخبر إن كلفة إعداد دراسات إنشاء ثلاثة مشاريع حكومية بلغت حوالي عشرة ملايين دينار (9.93 مليون للدقة)، وأن هذا المبلغ يكفي لبناء 200 بيت إسكاني!«دراسات الجدوى» بشأن المشاريع مسألة هامة جداً، بمعنى أنه حتى في أبسط المشاريع، والتي لو كانت على نطاق فردي ضيق، مثل افتتاح «برادة» على سبيل المثال لابد وأن تقوم بدراسة جدوى بشأن إمكانية نجاح المشروع أو فشله.دراسات الجدوى مهمة جداً باعتبارها تمنح مؤشراً أولياً يتعلق بهذا المشروع أو ذاك، وما إذا كان من الحصافة المضي فيه أو استبعاد فكرة تنفيذه.إلا أن المشكلة تتعلق بهذه المبالغ الضخمة التي تصرف على دراسات تقوم بها شركات حتى لو كانت عالمية، خلاصة عملها يتمثل بتقرير ورقي أو إلكتروني أو عرض بـ»الباوربوينت» لتحدد لقطاعات الدولة جدوى هذه المشاريع أو عدمها.المبلغ أعلاه القريب لعشرة ملايين دينار معني بـ»دراسات جدوى» لثلاثة مشاريع فقط! المشروع الأول أجريت له دراسة جدوى بمبلغ 4.6 مليون دينار ومعني بدراسة توسعة مطار البحرين الدولي، وتقدير تكلفة المشروع تصل لـ335 مليون دينار.المشروع الثاني دراسة جدواه بموجب اتفاقية مع شركة «مينهاردت» السنغافورية لتطوير وتصميم مبنى كلية الهندسة بجامعة البحرين والإشراف على تنفيذه، هذه الدراسة تكلفتها 1.32 مليون دينار، في حين قيمة المشروع 35 مليون دينار.المشروع الثالث دراسة جدواه لمرحلته الأولى فقط بقيمة 4 ملايين دينار! والمشروع معني بتطوير نظام النقل الجماعي للحافلات! تذكرون يا جماعة «الباص الأحمر والأبيض» المعروف باسمه الشهير «النقل العام»؟! هذا المشروع معني به، ودراسة مرحلته الأولى تكلف هذا المبلغ، بحسب الخبر المنشور، وللوهلة الأولى ظننت بأنها معنية بخطة تطوير النقل الجماعي عبر شبكة قطارات أرضية واسعة، لكن المشروع حدد إطاره بالحافلات!عموما، الفكرة هنا بأن «دراسات الجدوى» لثلاثة مشاريع، أي أفكار وخطط تكتبها شركات عالمية متخصصة على الورق تكلف خزينة الدولة عشرة ملايين دينار! وفي النهاية قد نخلص لنتيجة «عدم جدوى» المشروع، ما يعني أن الملايين التي دفعت على الدراسات والشركات التي أعدتها راحت وانتهى الموضوع.هذه ثلاثة مشاريع فقط، تخيلوا بأن كل مشروع يزمع تنفيذه يستلزم إعداد دراسة جدوى، وأقل سعر بالتأكيد سيتجاوز المليون دينار، نفترض ذلك لأن دراسة المرحلة الأولى فقط لتطوير النقل العام (هل سعر تذكرة الركوب مازال نص روبية؟!) استحق مبلغ 4 ملايين دينار! أقول تخيلوا عدد المشاريع التي سبقتها دراسات جدوى على مثل هذه الشاكلة، بالتالي تخيلوا عدد الملايين التي صرفت على الدراسات قبل تقرير جدوى المشروع من عدمه؟! أليست هذه مبالغ كبيرة ويتم صرفها بكل سهولة؟!لست معترضاً على إعداد أي دراسة جدوى لأية مشروع، باعتبار أن هذه الخطوة مهمة لتحديد إمكانية الفشل أو النجاح، لكن الاعتراض على رمي هذه المبالغ على شركات وخبراء هكذا دون تردد دون التفكير ببدائل للحفاظ على المال العام أو توظيفه بشكل صحيح. لماذا اللجوء لهذه الحلول الجاهزة؟! لماذا الوصول لقناعة بأن الشركات الأجنبية والخبراء بعقود هم أفضل من يفكر عنا؟!مشكلتنا مازالت معنية بعدم القدرة على خلق وصناعة قاعدة بحرينية مبنية على الخبراء والمتخصصين يتم جمعهم تحت منظومة معينة تكون مهمتها التخطيط الصحيح لقطاعات الدولة، ورسم سياساتها، أو أقلها المشاركة مع هذه القطاعات في ضبط مسار المشاريع عبر إجراء دراسات الجدوى وتقييم الأداء ووضع خطط خمسينية أو عشرية؟!ألم نتحدث كثيراً عن افتقادنا لجهة تخطط استراتيجياً بشكل شمولي للبلد؟! ألم نقل بأن التخطيط الاستراتيجي غائب هنا، وبالتالي فإن أسهل الحلول اللجوء لـ»مساعدة صديق»، وهنا مساعدة «الصديق» الذي بالضرورة سيكون أجنبياً وهي مساعدة بالتفكير والكلام لكن تكلفتها بالملايين.لماذا لا تنشئ الدولة هيئة للتخطيط الاستراتيجي، تكون معنية بتقييم المشاريع وتوجيهها في مسار صحيح، تضم خبراء وكفاءات وطنية وحتى أجانب في نطاق ضيق إن استدعت الحاجة، تقوم هي بدراسات الجدوى، وبالتالي توفر هذه المبالغ وتوظف في أمور أهم؟!المشكلة أننا استحلينا المسألة، وبات يعجبنا أن ندفع للآخرين ليفكروا عنا وليعطونا الاستشارة مقابل مبالغ ضخمة، في حين يمكننا الحصول على هذه الخدمة من المتخصصين من أبناء البلد وتحت منظومة رسمية تصبح أحد قطاعات الدولة، والمبالغ التي ستصرف فيها ستكون على هيئة رواتب وبدلات حالها حال أي وزارة أو هيئة أو قطاع.قد يكون لكلامنا هنا تأثير أكبر لو أفادنا ديوان الرقابة المالية بأرقام تبين عدد المبالغ التي صرفت على دراسات جدوى معنية بمشاريع خلال السنوات الماضية، وتبيان عدد المشاريع التي مضينا لتطبيقها بناء على هذه الدراسات، وعدد المشاريع التي لم تطبق لكن تكلفت مبالغ طائلة لـ»دراستها» فقط.خططوا استراتيجياً لهذه البلد، استفيدوا من خبرات المتخصصين من أبنائها، وستوفرون الملايين، إلا إذا لا توجد ثقة بخبرات وكفاءات هذا الوطن، فهذه مسألة أخرى!