تتراجع إلى الوراء حظوظ الوصول إلى هدنة ولو مؤقتة في غزة بفضل تعنت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وإصرارها على التصعيد الذي تعززه نزعة انتقامية تسود سلوك الأوساط الحاكمة في إسرائيل، مما يؤدي إلى زيادة الضحايا من الأبرياء في صفوف الشعب الفلسطيني، حتى بلغ عدد الشهداء ما يزيد على 100 شهيد سوية مع مئات الجرحى وآلاف المشردين، ويقود إلى تفاقم الأزمة وينذر بما هو أسوأ مما عرفته غزة في العام 2008، إبان عملية «الرصاص المصبوب» مما حدا بحوالي أربعين منظمة تنتمي إلى اتحاد الوكالات الدولية للتنمية إلى التحذير من «وقوع كارثة إنسانية في غزة في حال استمرار العنف، داعية المجتمع الدولي إلى تكثيف الضغوط من أجل فرض وقف إطلاق النار». على نحو مواز يشدد الرئيس الأمريكي باراك أوباما في اتصال هاتفي بنظيره المصري محمد مرسي دونما أي خجل من النفس أو خوف من ردة فعل عربية تضر بالمصالح الأمريكية «على ضرورة وضع حد للهجمات الصاروخية على إسرائيل التي تقوم بها حركة حماس»، كما جاء في بيان صادر عن البيت الأبيض يوم الإثنين 19 نوفمبر 2012»، ويعرب في الوقت ذاته، كما جاء في البيان ذاته، في مكالمة هاتفية أخرى مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو «عن أسفه لسقوط قتلى من الجانبين بنتيجة تبادل عمليات القصف بين إسرائيل والمقاتلين الفلسطينيين»، مندداً في المكالمة الأولى بالضحية ومساوياً في الثانية بينها وبين جزارها.في الوقت ذاته تتأزم العلاقات ليس بين المعارضة السورية ونظام بشار الأسد، إنما في صفوف المعارضة ذاتها حيث انتقدت «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي» المعارضة في داخل سورية «اعتراف باريس بالائتلاف الوطني السوري المعارض كممثل شرعي ووحيد للسوريين». وجاء على لسان رئيس مكتب الإعلام في «هيئة التنسيق» رجاء الناصر أن أي «محاولة لشطب وتجاهل المعارضة في الداخل لن تنجح، كاشفاً عن نية الهيئة الدعوة لمؤتمر جديد للمعارضة السورية يقام في العاصمة المصرية القاهرة، وستشمل الدعوة إليه الائتلاف الوطني».الخضوع العربي غير المبرر للغير، والتمزق غير المنطقي للذات، صورة تكرر نفسها في أكثر من بلد عربي، مما يجعل التطورات التي تشهدها المنطقة العربية، وعلى نحو مواز لما يجري في غزة، شعوباً وحكومات أمام امتحان من طراز جديد مصدره مجموعة من التحديات، إضافة إلى التحدي الذي يرفعه الوجود الصهيوني في وجوه العرب التي ما لم يجر التعاطي معها بحكمة، ومن منظور معاصر فمن المحتمل أن تقود إلى نهايات مدمرة تعيد رسم الخارطة السياسية العربية بشكل تجزيئي، أسوأ بكثير عما هو عليه الحال اليوم، وترغمها على الوقوع أسيرة في قيود الخضوع للقوى الأجنبية بغض النظر عن النوايا والتمنيات.يشهد التاريخ أن المرحلة الاستعمارية وضعت مصير البلدان العربية تحت رحمة قرار الدول الغربية المسيطرة، وسخرت هذه الأخيرة الأوضاع العربية لما يخدم مصالحها هي دون أي اعتبار لمصالح شعوب المنطقة، بعد أن سلبت من أبنائها حقوقهم السياسية ونصبت نفسها حاكماً مطلقاً عليها في بعض المناطق، كما كان الحال في عدن أو قوى حليفة لها، كما شاهدنا في لبنان وسوريا وحتى العراق، حارمة من خلال تلك السياسات الطلائع العربية المتنورة من بناء دولتهم العربية المعاصرة. وقد سلكت الشعوب العربية طرقاً وعرة، وقدمت تضحيات جسام، قبل أن تنجح في كنس الاستعمار التقليدي القديم من فوق أراضيها، كي تجد نفسها أمام تحد بناء الدولة المعاصرة، الذي لم تنجح أي من دول المنطقة في تجاوزه، حيث ماتزال الدول العربية تدار بذهنية غير متناغمة مع متطلبات دولة القرن الواحد والعشرين.لذا كان أول تلك التحديات سياسياً في جوهره، وهو بناء الدولة الحديثة بعد نيل الاستقلال، إثر رحيل الاستعمار الغربي، مرغماً بفضل تصاعد حركة التحرير العربية، كما شاهدنا في الجزائر واليمن، أو كنتيجة لخطة استعمارية عالمية، اضطر فيها ذلك، استجابة لمتغيرات في خارطة موازين القوى الدولية الانسحاب من مناطق عالمية، كما كانت عليه الحال في بعض الدول العربية، كما حصل في الخليج العربي. رغم كل أشكال التحضر السطحي التي ربما نشاهد نماذج منها في بعض دول الوفرة النقدية السائلة العربية، مثل المباني الحديثة الشاهقة تشق عنان السماء، أو الجادات الفسيحة الممتدة عميقاً في بطون الصحاري، لكن البلدان العربية ماتزال عاجزة عن تشييد البنى الأساسية التي تحتاجها الدول المعاصرة، التي يمكن أن تتأسس عليها البنى الفوقية التي تدير تلك الدولة وتسير شؤونها، وفق آليات معاصرة، تتقيد بمقاييس عالمية قادرة على نقل المجتمعات العربية من مقاييس القرن التاسع عشر إلى قيم القرن الواحد والعشرين.الأسوأ من ذلك، أن المعارضات العربية، بما فيها تلك التي ناضلت لكنس القوى الاستعمارية، وقدمت التضحيات الجسيمة في المعارك التي خاضتها لتحقيق ذلك الهدف، هي الأخرى، لم تنجح في تطوير برامجها، والارتقاء بأدائها، كي تكون مؤهلة، لا كما تتوهم هي ذاتياً، بل عندما تقاس بالمعايير السياسية الدولية المعاصرة، أن تتجاوز الأشكال التقليدية للمعارضة، بغض النظر عن استخدامها السطحي الشكلي لبعض من جوانب التقنيات الحديثة. فالعمل السياسي المعاصر، تماماً كما هو الحال في الاقتصاد، لا يقاس باقتناء المعدات التقنية، بل بالقدرة على استخدامها، والاستفادة منها لخدمة المشروع السياسي، لا العكس، كما شاهدنا في العديد من الدول العربية، حكومات ومعارضة، عندما تم ليّ رقبة التكنولوجيا الحديثة، كي تخدم برامج سياسية تقليدية، أكل عليها الدهر وشرب.وفشل العرب في التقدم خطوة واحدة على طريق أكبر تحد واجههم، وهو مشروعهم الوحدوي الذي توهموا أنهم ثاروا على الدولة العثمانية من أجل تحقيقه. وشاهدنا المشاريع الوحدوية العربية تتهاوى جميعاً الواحد منها بعد الآخر، تحت ضربات النزعات التقسيمية الضيقة الأفق، والثارات القبلية الأكثر ضيقاً. وانحرفت الأحزاب العربية من بنيتها التنظيمية الفكرية التي ادعت الانتماء لها، كي تحل مكانها هياكل تنظيمية خاوية، تنهشها العلاقات القبلية، وتسيرها الأفكار الفئوية. فرأينا القبائل والطوائف العربية تتسربل في أثواب أسماء أحزاب معاصرة، لعل أبرزها حزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب، ولم يسلم من هذا الوباء السياسي حتى الأحزاب الشيوعية العربية. هكذا رأينا العرب، وبدلاً من أن يسيروا قدماً على دروب الوحدة العربية بعد أن طردوا أكبر عقبة في طريقها وهو الاستعمار الأوروبي بشقيه الغربي والسوفياتي، يمعنون في تمزيق نفسهم ذاتياً كي يستنسخوا، بشكل أسوأ، مرحلة دول الطوائف التي سيطرت على الأندلس إثر إعلان الوزير أبو الحزم بن جهور «سقوط الدولة الأموية في الأندلس، مما حدا بكل أمير من أمراء الأندلس ببناء دويلة منفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه»، وهي فترة، اعتبرت «من أصعب فترات التاريخ الأندلسي قاطبة، وأكثرها تعقيداً وتشابكاً، فعلى الرغم من قِصَر مدتها -التي لا تتجاوز القرن الواحد- إلا أنها تتسم بالأحداث المتعاقبة والأطماع المتزايدة، والفُرْقَة والتنازع الشديدين».