كان لافتاً تلك المقالة التي كتبتها سوسن الشاعر والمنشورة في (الوطن) منذ بضعة أيام تعليقاً على العمليات الإرهابية التي هزت البحرين الأسبوع الماضي، لما تحمله من عميق الدلالة على طبيعة مأزق الأمريكان الذين باتوا يتخبطون فيه، في ظل ما أصيبوا به من بلادة سياسية في الفكر والرؤية بالنسبة لقضايا الديمقراطية في المنطقة.العلة التي تضع سوسن الإصبع عليها في كل مرة هي نفسها، لأن التشخيص واحد ونهائي، ولا أعتقد أن المريض سوف يشفى منها: العلة هي في هذا التواطؤ المزدوج والمفارق لطبيعة المنطق السياسي وللحس العام ولروح السياسة، هذا التحالف مع قوى التخلف والاستبداد المجربة في الواقع، والمشاهدة أفعالها الذميمة على الأرض في إيران والعراق، هذه المفارقة لا يشبهها في الغرابة إلا تحالف بعض قوى اليسار أو المحسوبة على اليسار التقدمي الديمقراطي مع القوى الطائفية. والمفارقتان لا تشبههما في الإدهاش إلا مفارقات مماثلة في تحالف الأمريكان مع النظام الطائفي في العراق والنظام الاستبدادي في طهران، (ليس مهماً هنا الأشكال الظاهرية، لأنه لا يمكن أن يقنعوننا بأنهم حلفاء في العراق وفي أفغانستان وفي لبنان، وإنهم ليسوا حلفاء في الخليج)! العلة بنت العلة يا للمفارقة! لمن يدعي الدفاع عن الديمقراطية وتسويقها في ورق السيلوفان في الشرق المتعطش للتقدم والحرية!يا للغرابة يراهنون على الخارج، يعدون له فراش الخطيئة، يعلنون أنهم الأعلون، أنهم الأكثر فهماً ووعياً وحرصاً على مصلحة البلاد والعباد.!!. يقزّمون جميع من يختلف معهم في الرأي، نفس الوجوه تدور في حلقة مفرغة، تردد نفس العبارات والشعارات والصياغات والاتهامات.. نفس الوجوه، نفس الأسماء، نفس الألقاب والكلمات والعناوين من أكثر من نصف قرن دون تغيير.. ثم تختفي دون أن تترك على الأرض أثراً.. سوى أثار المولوتوف والتفجيرات العشوائية المفتقرة للحس الإنساني وللبصيرة. أغلب الظنّ أنها تؤسس لدير جديد لا يمكن أن ننتظر فيه ذرية، دير العقم الأبدي، المتولد عن العقم الفكري والإفلاس السياسي.. مصابون بالصّمم،لا يقرؤون غير ما يكتبون، ولا يسمعون إلا أصواتهم، ولا يشاهدون إلا صورهم المنثورة على الأوراق المصقولة، ولا يناقشون غير أفكارهم الهوائية، لا يشعرون بوجود الأشياء من حولهم لحالة التضخم التي تتملكهم ولعمى الألوان الذي يدفع بهم إلى ساحة الردح السياسي.هم يؤثرون الحلول العدمية في مواجهة الحل العقلاني التوافقي، يصنفون أنفسهم زعماء سياسة ودين في ذات الوقت، ويضعون أنفسهم على سلم درجات القداسة غير القابلة للخدش والمس، ينصتون إلى الخارج الذي يتبرع لهم بتقديم الخدمات الجاهزة للبيع والتسويق في علب فاخرة، لتتكشف بذلك حقيقة مفزعة هي وليدة الإفلاس الفكري والسياسي والأخلاقي. إن نسق القيم الذي نشأ ونما مع نشوء ونمو الشعور الوطني والقومي والإنساني التحرري يتعرض اليوم للانهيار في الحياة العامة، وفي الإعلام وفي الثقافة، في السلوك في الشارع، في تبادل الأحاديث ورسائل البريد وبريد الرسائل من خلال انفصال المعرفة عن الأخلاق وعن قضايا الناس والمجتمع، وبالانفصال عن العقلانية عن النزعات الوطنية والقومية والهوية والتراجع عن الثوابت المستقرة وبيعها بالجملة والتقسيط لمن يشتري أو لمن يدفع الثمن أكثر!.