تتميّز الشخصية العقلانية بالقدرة على النظر إلى الأمور بميزان العقل، وتغليب العقل على العواطف والانفعالات الطارئة، وهو ما يعين الإنسان على تلمّس طريق الحلول السليمة بسرعةٍ وجرأةٍ أكبر من جهةٍ، ويوفِّر عليه الطاقة والمتاعب النفسية والصحية، من جهةٍ أخرى. غير أنه في خضم الأزمة السياسيّة التي عصفت بالبلاد منذ فبراير من العام الماضي، ولاتزال تداعياتها مستمرةً حتى هذه اللحظة رغم ما تبذله الجهات الرسمية والأهلية لاحتوائها، برزت مهمة عسيرة أمام العقلانيين والمستنيرين في مجتمعنا، حيث تحتّم عليهم استخدام منطق العقل والحكمة في التوفيق بين مرئيّات الأطراف المتنازعة مع حفظ حقوق كل منها، وتهدئة الأوضاع السياسية الملتهبة بحيث لا يُترك المجال مفتوحاً أمام المزيد من العنف والتصعيد، ونشر دعوات الحوار والمصالحة الوطنية بين المواطنين، ومحاصرة نداءات القصاص والانتقام. كانت المهمة الأصعب هي تحديد نقاط الاتفاق التي تجمع الطرفين الرسمي والأهلي، أي السلطة والمعارضة، ومحاولة استغلالها لتذويب نقاط الخلاف التي تفرقهما، والموازنة بينها، بحيث يتم التوصّل للقواسم المشتركة، وتلبية المطالب الشعبيّة بالمزيد من الديمقراطية والشفافية في اتخاذ القرار السياسي، وبما يعزِّز أواصر الوحدة الوطنية، ويحفظ الوطن سالماً غانماً. غير أن مساحةً واسعةً من سوء الفهم والتقدير أحاطت بالشخوص المستنيرة، حيث باتت الاتهامات تتقاذف عليهم من كل حدبٍ وصوبٍ، فتارةً يُنعت العقلاني بأنه شخص استسلامي، وانبطاحي، ويخشى المواجهة، ويساير الجهات الرسمية في مواقفها والإجراءات التي تتخذها خشية التعرّض للمساءلة والمضايقات؛ وتارةً أخرى يوصم العقلانيّون بالجبن والتردّد وعدم القدرة على حسم الموقف، وتارةً يتم اتهامهم بأنهم أناس انتهازيون، ويبتغون المحافظة على مصالحهم «المكتسبة» ظلماً أثناء الأزمة، ولا يكترثون بمشاعر الآخرين وآلامهم النفسية، ولا يولون اعتباراً لقيم أساسية كالحرية، والمساواة، والكرامة، وباختصار فهؤلاء العقلانيون هم حفنة من المتسلقين على أكتاف البسطاء، والمتلذِّذين بمعاناتهم اليومية، وسنكشف في المقالات اللاحقة بطلان هذه التهم وزيفها.