عام 2009 شهدت إيران حركة احتجاجية عارمة قبل أن تشهد بعض البلدان العربية ما بات يسمى مجازاً بالربيع العربي، إلا أن آلة القمع المبررة دينياً وحجم هيمنة أجهزة الدولة على المجتمع حالت -ربما مؤقتاً- دون حدوث تغيير سياسي إصلاحي، يضع حداً لتغول سيطرة رجال الدين والمؤسسة العسكرية التابعة مباشرة للولي الفقيه (في شكلها المليشياوي: الحرس الثوري)، ومن أجل المحافظة على هذه السلطة المطلقة والمقدسة، رأى العالم القتلى والجرحى في المدن الإيرانية والاعتقالات بالجملة والمظاهرات الصاخبة والجموع الغاضبة على السياسة "الإلهية الصنع” على يد ميليشيات الباسيج، ورغم تمكن الدولة من قمع تلك الثورة المجهضة، فقد كانت الحركة الاحتجاجية من الضخامة والاتساع ما يجعلها بمثابة الصفعة الشعبية المدوية على وجه طغاة الشعب الإيراني ونظام ولاية الفقيه الذي يخضع هذا الشعب المقموع بثقافة الموت والسلاح والاغتيال، والمغتصبة سلطته من قبل رجال الدين المستبدين.إن المشكلة في إيران تتمثل أمرين مترابطين؛ نظرية ولاية الفقيه المعادية للديمقراطية، والمشكلة الثانية تتمثل في الدستور الإيراني المكرس للديكتاتورية والقداسة بإعطاء المرشد الأعلى من الصلاحيات المطلقة ومن السلطة ما يكفي ليفعل كل ما يريد دون قيود أو شروط "بعكس المبدأ الديمقراطي”، السلطة يجب أن تكون مساءلة أمام المواطنين وتحتاج إلى مؤسسات حقيقية تعكس هذه المساءلة، وتجيب على أسئلة الرأي العام، ولا تكون على شاكلة البرلمان الحالي الذي يُطبق عليه المرشد الأعلى، ويتولى تصفية المرشحين له عبر مجلس الأوصياء الذي يعتبر السلطة السياسية ليست من شؤون عامة الناس، لذلك عندما ثار الناس بقيادة الإصلاحيين تمت مواجهتهم بعنف غير مسبوق في العالم لأن المرشد الأعلى في الواقع مقدس تماماً، وحتى لو نظرنا إلى مسألة الحكم في إيران في ظل ولاية الفقيه من منظور ديني ووفقاً للخبرة التاريخية، فإنه وحتى في الزمن الإسلامي الأول كان دائماً بالإمكان انتقاد الخلفاء الراشدين مباشرة، ولم يذهب أحد للسجن بسبب ذلك، في حين أن المرشد الأعلى حالياً هو في مقام أعلى من خلفاء رسول الله، وهذا منتهى الديكتاتورية والاستفراد بالسلطة.لقد اختار نظام الاستبداد الديني في إيران -إمعاناً منه في إحكام السيطرة على الشعب ومقدراته- طريق المواجهة مع العالم بما في ذلك المحيط الإقليمي، والتركيز على تكديس السلاح وافتعال الحروب والتدخلات لتصدير أزماته وتبرير البؤس السائد في البلاد والانهيار المالي والاقتصادي، وإذا كان النظام قد نجح في السابق في استغلال هذه اللعبة، فإنه من الواضح انه لن يكون قادرا على الاستمرار فيها مدة أطول، فأسطورة الشخصية الكاريزمية الدينية قد اهترأت وانتهت بلا رجعة، كما حدث في الواقع تحول في الشخصية الثورية في إيران في ضوء المغامرات التي قادها الملالي وجرت الوبال على المجتمع والاقتصاد، فأصبح هنالك ميل إلى العقلانية السياسية التي تترجمها اليوم القوى الإصلاحية، والتي باتت تغلب المنطق الإصلاحي على المنطق الثوري، خصوصاً عندما تبين أن النهج الحالي لا يلبي الحاجات الملحة للشعب، ولا يحل المشاكل الواقعية التي لا يمكن التغلب عليها إلا وفق حلول واقعية وعقلانية وعلاقات طبيعية مع الجوار الاقليمي ومع دول العالم، والتوقف عن منطق تصدير الثورة ومحاولات السيطرة.إن إيران اليوم تمر بوضع اقتصادي متدهور؛ فالفقر يستشري، والبطالة تتزايد، والغلاء المعيشي في أوجه، والتفاوت الطبقي تجاوز كل الحدود، والطبقة الوسطى تكاد تختفي؛ وليس ثمة ما يؤشر إلى الانفراج على المدى القريب؛ فالولايات المتحدة والدول الأوروبية تفرضان المزيد من العقوبات بما يجعل إيران مؤهلة (اقتصادياً) لاجتياح عواصف التغيير والاضطرابات على نمط الربيع العربي أكثر من أي بلد آخر في المنطقة، ولن يفيد الباسيج وهراواته في قمع أي انتفاضة.^ درجة فوق الهمس..ما تفتأ النخبة الإيرانية الحاكمة في طهران ومناصروها تؤكد أن إيران هي دولة إسلامية تنطلق سياستها من البعد الديني المناصر للمحرومين وللمظلومين في الأرض في مواجهة مملكة الشياطين التي يقودها الشيطان الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن المراجعة الدقيقة للسلوك الإيراني تجعل تلك المقولة محل نظر، فالمؤثر الرئيس والحاسم في السياسة الخارجية الإيرانية هو البعد القومي، فتحالفاتها ليست إسلامية بدليل تعاملها مع الولايات المتحدة الأمريكية (الشيطان الأكبر) في حرب الخليج الأولى والثانية، بل وتعاملها مع إسرائيل، كما إن تحالفها الرئيس في المنطقة مع سوريا التي يحكمها حزب البعث (وهو حزب قومي علمانى) يأتي على خلفية المصالح القومية الإيرانية فقط.