الإصرار هو الوقود الذي لا يتوقف عن مد صاحبه بطاقة لا تنتهي إلا لتبدأ. الإصرار هو السر الأول في إنجاز الأنبياء والعلماء والمفكرين والمكتشفين، ما حلموا بتحقيقه في حياتهم القصيرة، من أهداف ومثل وقيم عليا، تخدم مجتمعاتهم وتحقق رسالتهم الإنسانية.ومن قصص الإصرار، قرأت قبل فترة قصة رائعة تصور لنا مدى إمكانية صاحب الهدف من تحقيق ما يسمى بالمستحيل، بطلتها طفلة أمريكية صغيرة كان عمرها 12 سنة، حين شاهدت خلال إجازتها الصيفية من عام 1990 مظاهرة للتعريف باحتفالية يوم الأرض، وكيف أن القمامة التي تهدرها مدينتها ما هي إلا إهدار للموارد، وتسميم للأرض، وضرر للإنسان. نظرت الفتاة الصغيرة إلى مدينتها فلم تجد فيها أي برنامج حكومي لإعادة تدوير القمامة «Recycling»، وتقليل الفاقد من مخلفات المدينة، إنها لورا بيث موور «Laura-Beth Moore»، المولودة في مدينة هيوستن. رغم صغر سنها، لكنها امتلكت همة يغبطها عليها الكبير والصغير، فعلى مدار شهور إجازتها الصيفية الثلاث، أخذت لورا تناقش عمدة المدينة في أهمية توفير نظام لتدوير القمامة والمخلفات في كل المدينة، وحين نظرت العمدة باستهزاء لهذه الصغيرة التي تتحدث في أمور أكبر من سنها، لم ينل هذا الرفض من معنويات لورا، وغيرت وجهتها، لتحاول الحديث مع مسؤولين حكوميين آخرين في المدينة، لكن هؤلاء بدورهم طلبوا منها أن تجعل شخصاً أكبر سناً يحدثهم بدلاً منها، وحين توقفوا عن تلقي اتصالاتها الهاتفية، تحولت للكتابة لهم شارحة طلبها وأهميته، للبيئة وللمدينة وللبلد.وبعد مرور ستة أشهر من محاولاتها، أعلنت إدارة المدينة عن برنامج لإعادة تدوير المخلفات في بعض أحياء المدينة، لكن الحي الذي تقطن فيه لورا لم يكن من ضمن الأحياء المشمولة في هذا البرنامج، وكان التبرير الحكومي أن تنفيذ هذا البرنامج في كل الأحياء أمر غير مجد اقتصادياً. لم تتقبل لورا ذلك، فهي الابنة التي رباها والداها على حقيقة أنه ليس هناك شيء ذو قيمة يأتي بسهولة ودون تعب في هذه الحياة، وأن على المرء أن يجتهد لأقصى قدراته في كل صغيرة وكبيرة، وأنه مهما كان صوتك صغيراً، فهو قادر على أن يصنع فرقاً.قررت لورا تغيير استراتيجيتها، فبدلاً من مخاطبة المنظمات الحكومية، تحولت لتخاطب الشركات والمؤسسات الخاصة، وبدأت بالشركات العاملة في مجال إعادة التدوير، لكن هؤلاء بدورهم استخفوا بالحديث مع طفلة صغيرة السن. في هذه الأثناء، كانت والدة لورا تراقب محاولاتها عن قرب، وتركتها تناطح وتكافح لكي تتعلم درساً مفاده أنه لا يمكن مناطحة النظام السائد والأمر الواقع، لكن هذه الأم لم تكن تدرك أنها في حقيقة الأمر كانت هي من يتعلم درساً قيماً في المثابرة والكفاح والاجتهاد، من طفلة ذات الـ 12 ربيعاً.ومع كل رفض، كان يزداد إصرار لورا أكثر وأكثر على الاستمرار، بدأت لورا بجيرانها، وعرضت عليهم فكرتها، الأمر الذي أكسبها مشجعين ومتبرعين، وكانت أول عقبة في طريقها توفير مكان كبير يمكن تخزين فيه مخلفات الحي من أجل إعادة تدويرها واستخدامها، ونظرت فوجدت أن مدرسة الحي هي أفضل حل، لكن ناظر المدرسة لم يكن أفضل حالاً من سابقيه، فرفض الفكرة ثم رفض تلقي اتصالات لورا ورسائلها، وكعادتها، زاد إصرار لورا مقابل هذا الرفض، وأخذت تخاطب الجيران وأولياء أمور التلاميذ، حتى لانت رأس الناظر بعد شهور طويلة بفضل مساندة مجموعة من أولياء الأمور.كان ربيع 1991 موعد أول تجمع للمئات من أهل الحي من أجل تسليم مخلفاتهم وقماماتهم القابلة لإعادة التدوير، وقدم متبرعون مساعدات إلى لورا لكي تتمكن من التخلص من القمامة، ومنهم من أتوا بشاحناتهم لنقل المخلفات إلى مصانع إعادة التدوير، ومع تكرار هذه التجمعات الأسبوعية، بدأ عدد المتبرعين ينخفض كثيراً. عندها قررت لورا التضحية بمصروفها الشهري في دفع إيجار شاحنة تتولى نقل المخلفات إلى مصانع إعادة تدوير الورق والألمنيوم والزجاج والبلاستيك وغيره، واستمر الحال على ذلك لمدة عامين، واستمر الحال حتى جاءت عمدة جديدة للمدينة، والتي قررت تطبيق برامج إعادة تدوير ناجحة لكل الأحياء، وحين طلبت من المسؤولين أن يضعوا لها خطة لإعادة تدوير مخلفات المدينة عرفوا فوراً بمن يتصلون، وهذه المرة دق هاتف لورا، معلناً لها أن مجلس المدينة هو من يريد التحدث معها! لذلك أقول شكراً أيتها الجميلة لورا، من إصرارك نتعلم الكثير. نحن الأكبر سناً منك، نعتبرك الأكثر حكمة من ملايين الناس الذين يخشون التقدم لإنجاز أحلامهم. شكراً للمواقف النبيلة التي وقفتها لتكوني عبرة لكل إنسان في العالم.