بين الحين والآخر، وخاصة عند المنعطفات الحادة كالتي تشهدها المنطقة العربية اليوم، يطفو على سطح العمل السياسي العربي دعوات معينة تحث على ضرورة العودة إلى مشروعات العمل الوحدوي العربية. تستعين القوى التي تتبنى مثل هذه الدعوات تارة بتحذيراتها من القوى الخارجية والأخطار التي تشكلها مشروعات هذه الأخيرة على المنطقة بأسرها، وأحياناً أخرى تستنجد بالتاريخ المشترك للمنطقة وما تحمله خلفياته الثقافية والدينية من عناصر وحدة ولم شمل، دون أن نستثني من ذلك البعد المستقبلي الذي تضفيه القوى التي تقف وراء تلك الدعوات، من أجل الترويج لمشروعاتها، وصبغها بالمواصفات التي تنظر نحو الإمام، وتتحاشى الالتفات إلى الخلف.وعبر مسيرات التاريخ السياسي المعاصر للمنطقة العربية، شاهدنا خلال نصف القرن الماضي اتجاهاً وحدوياً متنامياً ينحو في اتجاه ذلك الشمولي الذي يحتضن المنطقة العربية برمتها تحت جناحيه، كما رأينا أيضاً تلك التجارب الوحدوية الإقليمية التي أطلت برأسها في فترات متلاحقة لاهثة وراء دوائر إقليمية عربية أصغر حصرت نفسها في حيز مناطقي مثل الخليج العربي، أو المغرب العربي، أو بلاد الهلال الخصيب العربية.وعبر تلك المسيرة الملتوية، والتجارب المتلاحقة، وجدنا حالات وحدوية أعلنت فشلها السريع، وتلك التي استغرقت بعض الوقت، لكن أياً منها جميعاً لم يشكل النموذج الوحدوي الراسخ في أذهان الغالبية العظمى من العرب. زرعت كل تلك التجارب الفاشلة غصة في حلق المواطن العربي تراوحت بين الألم والسخرية في ذهنية وسلوك ذلك المواطن، حتى بات البعض منا يردد بشكل تلقائي، وأحياناً غير واعٍ، مقولات مثل «لقد اتفق العرب على ألا يتفقوا»، تعبيراً عن امتعاضه من حالات التمزق العربية التي كانت تحت ناظريه، وذهب البعض إلى الربط بين المشروعات الوحدوية والاستراتيجيات الاستعمارية تجاه المنطقة، فوجدنا من يعتبر «جامعة الدول العربية»، ابناً شرعياً للسياسات البريطانية، ومشروع «دول مجلس التعاون الخليجي»، هو الآخر وليد تمخضت عنه استراتيجية بريطانيا في مطلع الستينات، القائمة أساساً على مشروع الانسحاب من شرقي السويس.وللحكم على مشوار العمل الوحدوي العربي، وفي القلب منه مشروع «الاتحاد الخليجي» ومن ثم الخروج بقناعة حول صحة تلك الدعوات، وبالتالي مدى قدرتها على التحول من مجرد مناداة عاطفية، إلى برامج عمل وحدوية موضوعية في طروحاتها، وقابلة للتنفيذ على أرض الواقع، لابد من التأكيد على مجموعة من الحقائق التي، ربما، غابت من أوراق عمل تلك الدعوات، أو لم تحظَ بالاهتمام الذي تستحقه، والتي يمكن حصر الأهم منها في النقاط التالية:1. إن مشروعاً تاريخياً بمثل هذه الأهمية من الخطأ أن يبدأ من خانة الصفر، إذ لابد له من قراءة التجارب الوحدوية الأخرى عربية كانت أم دولية، والاستفادة، عند قراءة التجارب العربية، من التراكمات التي أفرزتها تلك التجارب. فعلى الصعيد العربي، هناك تجارب مريرة لابد من قراءتها بشكل موضوعي متأنٍّ من أجل استخلاص الدروس والعبر منها. حتى على المستوى المحلي، عرفت المسيرة الاتحادية الخليجية، منذ الإعلان عن الانسحاب البريطاني شرقي السويس، مراحل صعود وهبوط، لابد من التوقف عند كل واحدة منها، وتشخيص الأسباب التي أدت إلى أي منها، وأوصلت دول المنطقة إلى الشكل السياسي القائم المعروف حالياً باسم «دول مجلس التعاون الخليجي». 2. إن مشروعاً استراتيجياً يمس منطقة مهمة مثل الساحة الخليجية، لا يمكن أن ينجح، إذا أتى، نتيجة رؤى بعيدة عن قرارات أصحاب الأرض، وهي القوى السياسية الخليجية، وفي المقدمة منها الأُسر الخليجية الحاكمة اليوم. أي إقصاء من طرف القوى الأجنبية، أو تخاذل من طرف القوى المحلية، من شأنه أن يعيد أي مشروع وحدوي خليجي طموح يتجاوز الصيغة الحالية القائمة، إلى رفوف المكتبات، أو أدراج غرف الأرشيف. 3. إن القوى الخليجية وهي تضع أسس المسيرة الخليجية على طريق التوحد، لم يعد في وسعها العودة للوراء، والانطلاق من مقولة خاطئة ترفض الاعتراف، علناً أو حتى بشكل مبطن، بوجود كيان سياسي قائم اليوم، هو «دول مجلس التعاون الخليجي»، بغض النظر عن مدى اقتناع تلك القوى أو رفضها لما هو قائم اليوم. فليس هناك من في وسعه إنكار أن هذا الكيان، رغم كل الملاحظات التي قد يثيرها البعض حوله، هو شكل من أشكال العمل الوحدوي، الذي لا يمكن، بل ربما من الخطأ القفز فوقه.4. إن دول الخليج العربية، ليس في وسعها، بل وليس من مصلحة شعوبها، بتر العلاقات التاريخية والدينية التي تربطها بالشعوب العربية ودولهم، ومن ثم فمن المنطقي أن تراعي دعوات أي مشروع اتحادي خليجي، إن هي شاءت أن توفر لهذا الاتحاد أفضل بيئة تضمن ولادته، ونموه بشكل معافى سليم، البعد العربي لمثل هذا الاتحاد. مرة أخرى ينبغي التأكيد هنا على ضرورة الابتعاد عن النظرات الطوباوية التي لا تستطيع التخلص من التمنيات العاطفية المنافية لقوانين التاريخ، والمتصادمة مع حقائق الواقع. المطلوب هنا استخدام المنطلقات النظرية الموضوعية العلمية السليمة، عوضاً عن الاستجابة للرغبات الذاتية المنفعلة. 5. إن مشروعاً اتحادياً، بغض النظر عن صيغة هيكلته، لابد أن يكون له تأثيرات عميقة مباشرة على الجغرافيا السياسية للمنطقة، ومن ثم فمن غير المنطقي، أن تقوم ركائزه في بيئة محيطة معادية له، الأمر الذي يستدعي أن تأخذ الدول العربية التي ستقع على عاتقها مسؤولية وضع الرؤية وتحديد المسارات وإجراءات التنفيذ، البعد الإقليمي بعين الاعتبار، وبالتالي تحسب ردود الفعل المتوقعة من دول الجوار الأجنبية مثل إيران، وإثيوبيا، بل وحتى تركيا، كي لا يشكل قيامه تحدياً لها، دون أن يعني ذلك الخضوع لهم أو القبول بشروطها، عندما تكون معادية للمصالح الوطنية لدول المنطقة. المقصود هنا التوازن القائم على التشخيص الصحيح لما هو ممكن أو غير ممكن.6. إن رؤية توحدية خليجية علمية، لابد لها أن تراعي مصالح الدول العظمى القائمة في المنطقة، فالخليج، أكثر من أية منطقة أخرى في العالم، تتداخل فيه المصالح المحلية بالإقليمية، بتلك الدولية على نحو فريد وشائك، الأمر الذي يعطي ثقلاً أكبر، مقارنة مع مناطق أخرى، للعامل الدولي في صنع القرار المحلي. ومن ثم فمن الطبيعي أن تراعي القوى الخليجية الضالعة في وضع مشروع اتحادي إقليمي، ذلك البعد الدولي في معادلة التوحد الخليجية. مرة أخرى ينبغي التأكيد على أن المطلوب هنا ليس التضحية بالمصالح المحلية لصالح تلك الدولية، ولا الخضوع لهذه الأخيرة، بما يتيح لها التحكم في مصير المشروع، وتسيير حركته، ولكن بالمقابل، ليس من مصلحة المشروع وضع نفسه في خانة تصادم متناقضة مع مصالح تلك الدول العظمى، ومن ثم تقتضي الحاجة، التوصل إلى معادلة تراعي أولاً المصالح المحلية، دون أن تتناحر مع تلك الدولية.