إذا كان بعض غلاة السنة يعتقدون أن في وسعهم بالتفوق العددي لطائفتهم وانتشارها الديموغرافي الواسع ومقدراتها المالية الكبيرة إعادة الشيعة إلى قمقم الخضوع بالقوة، فإنهم حتماً مخطئون وواهمون. هذا زمن ولى إلى غير رجعة. وإذا كان بعض المتشددين الشيعة المنتشين بسلاحهم والنفوذ الواسع الذي أحرزه معقلهم الأكبر إيران، يظنون أن «النصر الإلهي» لا بد آت لاستئصال شفة السنة وتسليم سلطة آخر الزمان إليهم، فالأرجح أنهم سينتظرون ألف سنة أخرى من غير أن يتحقق شيء من هذا الهدف. ثمة من ينفخ في أبواق الشحن المذهبي ويحرض على التعصب لغايات وغايات. وثمة آذان في الشارع تطرب لسماع أناشيد التعبئة الغريزية وشحن النفوس لعلها بها تنسى أنين جوع بطونها وبطون أطفالها وترمي مسؤولية إفقارها وتهميشها على الآخر الذي يتساوى وإياها تعتيراً واذلالاً ولا يختلف عنها بشيء. لكن «الجماهير الطائفية» تغفل أنها المفعول بها وفيها عندما تقبل بالسير كالنعاج وراء المحرضين الذين يقودونها إلى المسالخ الدموية. لا شأن لهؤلاء بالخلافات والاختلافات الفقهية التاريخية بين المذهبين الشيعي والسني. صحيح ان هذا التباين الفقهي بين المذهبين موجود فعلاً، لكنه لم يكن يوماً هو السبب الحقيقي لتفجير الصراعات التاريخية بين الملّتين. وحتماً ليس هو سبب البؤس الذي يعانيه الفقراء، وقود الفتنة وسلاحها، لدى الطرفين. الأصل والفصل هما في السياسة والمصالح الكبرى للدول، فمستلزماتها هي التي وحّدت الطائفتين في مراحل وهي التي فرّقت بينهما في مراحل أخرى. الفتنة تطلق أشرعتها وتنطلق عندما تجد جمهوراً يتلطى بها ويدفع بمجاذيفها. ودعاتها هم أبرع من استخدم الانتماء الديني أو المذهبي لتعبئة الجمهور حيناً باللجوء إلى المبررات الوطنية أو القومية أو الثورية كما يجري حالياً. هم يتقنون الضحك على ذقون الأغبياء لاستخدامهم أضاحي على مذابح مصالحهم والغايات. وعندما يتوافر هؤلاء تضمن الفتنة امتلاك أسلحة الدمار الشامل. لكن الفتنة أيضاً ليست قدراً. تسقط رهاناتها، عندما تفقد قدرتها على تعبئة الجمهور ورفض الناس لها. صحيح أن لدى المجموعات الطائفية مهما كبر حجمها أو صغر هواجسها والمخاوف في منطقة يجتاحها منطق التكفير والتهجير والغلبة والانتقام التاريخي. لكن التجارب المريرة للفتن في هذا المشرق أثبت أن حروب الطوائف تنتهي دائماً بتسويات، فلماذا انتظار فاتورة الدم الباهظة للجلوس إلى طاولة التفاوض؟ ألا يمكن التفاوض قبل دفع الأثمان الغالية؟ ولماذا لا يتفادى الأبرياء وقود الفتنة المفترضين، سلفاً نار جهنم التي تنتظرهم، برفع شعار: الشعب يريد الحياة، الشعب لا يريد الفتنة.*نقلاً عن «النهار» اللبنانية