دعونا في البداية نذكر بأن العرب -من المحيط إلى الخليج وإن علت نبرة الاستياء لديهم من الجار الإيراني وتدخلاته في الشأن العربي- هم ضد ضرب إيران بأي صورة من الصور، وضد إلحاق أي ضرر بالشعب الإيراني الجار المسلم والشقيق المغلوب على أمره، كما إنهم عبروا عن ذلك صراحة، فرادى وجماعات في أكثر من مناسبة، بل إن أغلب العرب اليوم -شعوباً وحكاماً- بالرغم من العدائية الإيرانية والخطابات والبيانات الفجة التي تظهر في الإعلام الإيراني من حين لآخر هم مع حق إيران الكامل في امتلاك القدرات النووية السلمية، ومع سيادتها الكاملة على أراضيها.هذه المقدمة كان لابد منها حتى لا يفسر ما سنقوله لاحقاً تفسيراً تآمرياً، فالمتابع لحرب التهديدات اللفظية والخطابية المتبادلة بين طهران وتل أبيب خلال الأشهر الأخيرة يكتشف دون عناء كبير الطابع المسرحي لهذه الحرب المفتعلة والمشكوك في طبيعتها وتوقيتها وأهدافها، ولذلك فإننا قد مللنا من هذه المسرحية الهزلية المملة والمكررة التي اسمها الضربة الإسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية، وكذلك من المسرحية المقابلة التي أسمها القضاء على إسرائيل ومسحها من الخارطة الجغرافية في المنطقة.بعض الأسباب التي تدعونا إلى الشك في هذه العملية المسرحية عديدة، منها على وجه الخصوص:- أولاً: بما أن هذه المسرحية الهزلية تتم بالتوافق والتنسيق مع الإدارات الأمريكية المتتالية، "ليس مهماً هنا أن يكون الرئيس جمهورياً أو ديمقراطياً بحكم الترابط العضوي الكامل بين الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية”، فإنه من المهم العودة قليلاً إلى الوراء، إلى بداية المسرحية، انطلاقاً من جولات وصولات السيد بوش الابن خلال السنوات الماضية التي أمضى 8 سنوات كاملة في التهديد بضرب إيران وإسقاط نظامها، "باعتباره يشكل محور الشر الأكبر في المنطقة”، في مقابل الجولات والصولات الكلامية الإيرانية حول "الموت للشيطان الأكبر”، وكان يقابل هذا "الردح الكلامي الخطابي” تنسيق شبه كامل وتام بين الطرفين، في ملفين في منتهى الأهمية، برز من خلالهما الحلف غير المقدس بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وهما ملف احتلال العراق وتدمير نظامه والقضاء على دولته قضاء مبرماً، وتفكيك جيشه وضرب وحدته الوطنية، وتحويله إلى دويلات طوائف، تمهيداً لمشاريع دويلات عرقية - طائفية على أنقاض الدولة العراقية التي كانت تشكل رقماً عنيداً وصعباً في مواجهة إيران وإسرائيل معاً، والملف الثاني هو الملف الأفغاني، حيث كانت الأجواء الإيرانية تحتضن الطائرات الأمريكية العابرة لتدك طالبان في أفغانستان دكاً للقضاء على العدو المشترك بينهما "طالبان”.- ثانياً: لايزال العالم يتذكر فضيحة "إيران جيت” أو "إيران كونترا”، حيث عرفنا أن سيلاً من الأسلحة وقطع الغيار كانت تشحن من أمريكا عبر إسرائيل إلى طهران، أثناء حربها مع العراق. حيث كان هناك جسر جوي بين إيران وإسرائيل محملاً بأنواع السلاح وقطع الغيار، وكانت إيران وقتئذ تصور للعالم أن أمريكا هي الشيطان الأكبر، والعدو الأول، وكان الإيرانيون يصرون على التظاهر ضد أمريكا وإسرائيل، فجاءت هذه الفضيحة لتكشف الحقائق السرية.- ثالثاً: لكل من إيران وإسرائيل "عدو” ثابت مشترك في منظورهما، وهم العرب، فإسرائيل تحتاج إلى وجود إيران قوية ومناكفة للعرب، وإيران محتاجة إلى وجود إسرائيل لتكون سبباً من أسباب تبرير توجهاتها وتصدير قضايا الداخل إلى الخارج، وفي هذا السياق نشرت صحيفة "هآرتس” الإسرائيلية مؤخراً، مقالاً بقلم الخبير الإسرائيلي عنار شيلو يلخص بشكل دقيق حقيقة الضربة الإسرائيلية لإيران وحقيقة الحرب المسرحية بينهما، حيث يعتبر "أن إسرائيل وإيران كل منهما محتاج إلى الآخر ليبقى، ففي إيران وإسرائيل نظامان فاشلان مدينان بالبقاء لبعضهما البعض، فإيران محتاجة لإسرائيل، فلو لم تكن موجودة لاحتاجت إلى إيجادها، فالخطابة المعادية لإسرائيل تمكن النظام من صرف انتباه الجماهير عن مشكلاتهم الحقيقية، وعن أزمتهم الاقتصادية، وعن غلاء المعيشة وعن القمع السياسي وقتل المتظاهرين، وانعدام الحرية، فالكراهية دائماً قوة موحدة، فلا يوجد كالعدو الخارجي المشبه بالشيطان لإسكات التوترات الداخلية، وحتى لو كان الحديث عن تهديدات صورية من قبل إسرائيل، فإنها قد أفادت النظام الإيراني، الذي امتاز باختيار عدو يخدمه خدمة صادقة، والخطابة المعادية لإيران تمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من الضرب على أوتار المحرقة، وصرف انتباهنا عن مشكلاتنا الحقيقية، عن الأزمة الاقتصادية وعن غلاء المعيشة وعن الخدمات العامة المنهارة، وتساعد إيران إسرائيل، فهي تهددها، وهذه التهديدات زيت في إطارات حكومة نتنياهو المتعثرة تنقض عليها، كأنها تجد غنيمة كبيرة. إن غيوم الحرب التي أنتجها وزير الدفاع الإسرائيلي يهود باراك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي تلوث جونا على الدوام من بدء الشتاء الأخير إلى نهاية الصيف، قد نجحت في خنق الاحتجاج الاجتماعي الواسع جداً والذي كان تهديداً حقيقياً للحكومة الإسرائيلية”.ونعتقد أن هذه المقتطفات من هذا المقال كافية لتوضيح حقيقة هذه التهديدات الجوفاء الفارغة، للإلهاء والدعاية السياسية، فإسرائيل لما أرادت تدمير المفاعل النووي العراقي فعلت ذلك فوراً، ودون إبطاء ودون مشاورة البيت الأبيض، ولكنها اليوم تمارس هذه اللعبة للابتزاز والتخويف الداخلي والخارجي لا أكثر ولا أقل.درجة فوق الهمسأشار الكاتب الأمريكي "تريتا بارسي” وهو أستاذ في العلاقات الدولية في جامعة "جون هوبكينز” وخبير في الشأن الإيراني، أشار في كتابه "التحالف الغادر، أسرار التعاملات بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة” إلى "أنّ العلاقة بين المثلث الإسرائيلي - الإيراني - الأمريكي تقوم على المصالح والتنافس الإقليمي، وليس على الأيديولوجيا والخطابات والشعارات التعبوية الحماسية، وأن إيران وإسرائيل ليستا في صراع أيديولوجي، بقدر ما هما في نزاع استراتيجي قابل للحل”.