استطراداً للأفكار المطروحة في المقال السابق، يتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي: هل حقّاً أن الجماهير المشاركة في المسيرات المعارضة مثلاً للعدوان الإسرائيلي على هذا القطر العربي أو ذاك تتصرّف بدافع عواطفها الجيّاشة فقط، أي دون التفكير والتبصّر ملياً بالموضوع؟إن الإجابة عن هذا السؤال تحمل مغزىً هاماً ذلك لأنّه يسود الاعتقاد لدى البعض أن السواد الأعظم من المشاركين في هذه التظاهرة أو تلك هم مجرّد جماعات أو أفراد محسوبين على هذا الفصيل أو الحزب أو الجمعيّة، وبالتالي فهم يمتثلون لأوامر الحزب دون قيدٍ أو شرطٍ، مما يذكِّر بالمسيرات الحاشدة المؤيّدة لسياسة الحزب الشيوعي السوفيتي في السبعينات من القرن الماضي، والتي كانت تُنظّم في مدينة موسكو بمناسبة ثورة أكتوبر الاشتراكية أو في يوم العمال العالمي من كل عام، والتي كانت أشبه بكرنفالٍ يتم فيه استعراض القوة السوفيتية العسكرية، ويخرج خلاله العمال والفلاحون لتخليد ذكرى الذين ساهموا في تحقيق المثل الاشتراكية العليا.من الخطأ، بل من الإجحاف طبعاً، القول بأن كل من يشارك في تظاهرةٍ واسعة النطاق عدداً ونوعاً ينضّم إليها في حالةٍ من انعدام الإدراك والفهم، فالمواطنون الذين يشاركون في المسيرات والتجمّعات بوجهٍ عامٍ إنما يفعلون ذلك بوعيهم التام لأهدافها الآنية، وغاياتها المستقبلية، فهم يريدون بذلك إيصال رسالةٍ ما للجهات المعنيّة تتمحور حول عدم رضاهم عن بعض الأمور أو التجاوزات، ومطالبتهم بوقفها أو الحدّ من تداعياتها. إلا أن واجب المصارحة مع الذات يتطلب الاستدراك بالقول بأن بعض القوى والشخصيّات السياسية ذات الكاريزما الاجتماعية الهائلة قد ساهمت بقوّةٍ في تشكيل الوعي السياسي لدى العامة، والمراهقين والشباب على الأخصّ، بما يتوافق مع مرئيّاتها للأحداث السياسية، وتفسيراتها الشخصية لها، وكرسّت قسطاً كبيراً من جهدها ووقتها لتنميط الوعي الجماهيري ضمن أطرٍ محدّدةٍ، مما ترك أثراً ملحوظاً في نوعيّة الأشخاص الذين أوصلهم الناس بأنفسهم إلى البرلمان، وفي المسيرات النسويّة ضد قانون الأحوال الشخصية الذي أُعِّد أساساً لإنصاف المرأة، وإرجاع حقوقها المسلوبة قروناً طويلةً!