اختتم المقال السابق بمفهوم «الارتباط المعزز» الذي تعمل به تركيا بين السياسة والاقتصاد، كما ذكر في متنه توظيف الموروث التاريخي والجغرافي لتركيا في سياستها الخارجية عملاً بدعوة «أوغلو»، والتي تبناها «أردوغان» –رئيس الوزراء- منذ ترؤسه للحكومة. ويمكننا اعتبار هذه الدعوة بمثابة خارطة الطريق لفهم السياسة العثمانية التي يدندن على أوتارها «أردوغان»، مع الأخذ بالاعتبار أهم المنحنيات في سياستها والتغيرات الطارئة عليها في مراحل مختلفة.تحدثنا عن الاقتصاد التركي بشكل موسع، ولكن في عودة عاجلة للسلطنة العثمانية ونشاطها التجاري الذي عملت من خلاله عمل البورصة في زمننا الحالي، وإحيائها طريق «الحرير» التاريخي في تأمين للطرق البرية بعد نشاط تجارتها عبر الموانئ البحرية والسفن، في عزم لا يلين لتحقيق الربحية. يمكننا تفسير المطامع التركية في منطقة الشرق الأوسط، لا حنيناً لتاريخ عريق ومجد إمبراطورية مندثرة وحسب، وإنما لدوافع أكبر ومغريات متمثلة في نفط المنطقة والغاز والطاقة والاقتصاد.تركيا تغازل الخليج اقتصادياً في مراحل ليست ببعيدة، ولطالما غازلت العراق والشام منذ سنوات طوال وإن بدت في الآونة الأخيرة أكثر تحفزاً، ولكن سياستها تعمل وفق مبدأ «يتمنعن وهن الراغبات»، بما يتوافق مع استراتيجية «الاحتواء» الحديثة التي تعمل بها، إذ تحمي مصالحها بصفة غير مباشرة ولا تتدخل إلا عند الضرورة القصوى وبحذر شديد. وفيما عدا ذلك تنتظر فريستها تخنع في أقصى مراحل الاحتياج والضعف لتطلب النجدة، فتكون تركيا بمثابة البطل المنقذ في صفقات سياسية متباينة، نحو ما فعلته أمريكا في حرب الخليج الثانية، لاستنزاف ثروات الخليج وابتزازه، وإخضاع المنطقة تحت سطوتها. فمتى ما استصرخت العراق أو سوريا «واتركياه» ستهب بلد «النخوة» لنجدة «المسلمين» في كل مكان، خصوصاً عندما تكون بلاد المسلمين وجبة دسمة كانت ذات يوم على المائدة العثمانية الزاخرة. القائل بصفاء النوايا التركية إزاء الشرق الأوسط كمن يبرئ إخوة يوسف من كيدهم لأخيهم، ولا شك في أن تركيا واحدة من القوى الأربعة الرئيسة في الشرق الأوسط، بمعية مصر وإيران والسعودية، ولاشك في أن تركيا صاحبة طموح المد التوسعي الكبير في المنطقة. ولعل المؤشرات على الساحة السياسية الشرق أوسطية شاملةً المتغيرات الاقتصادية والعسكرية، وكذلك التاريخية والجغرافية، ترجح كفة تركيا وتمنحها السبق لتحقيق أهدافها من المنطقة. ويبدو من ذلك أن تركيا –عبر تاريخها- ورجوعاً لعثمانيتها لم تركز على طرق التجارة في المنطقة وحسب، وإنما عملت بجد على الطرق الناجعة للهيمنة على الشرق الأوسط وبأعلى مستوى من السلمية المتاحة، ولعلها تكون طريقاً أخرى ملتوية تستقي بعض الحكم من «حصان طروادة».آخر النبضالسؤال الذي يطرح نفسه: إلى أي مدى ستتصدى القوى الثلاث الكبرى الأخرى في المنطقة لـ»العثمنة الحديثة» على النموذج التركي العلماني؟ وما الدور الذي ستلعبه -في الوقت القريب- كل من السعودية ومصر تحديداً من قلب الشرق الأوسط، لمواجهة فك أسنان الكماشتين «الإيرانية» من جهة، و»التركية» من جهة أخرى، لكي لا تحكما قبضتيهما على المنطقة؟!