إن أخطر لعبة سياسية يمكن أن تمارس في أي مجتمع هي لعبة التقسيم التي سرعان ما تنقلب نتائجها الوخيمة والمدمرة على ممارسيها قبل ضحاياها تماماً كما ينقلب السحر على الساحر.المتابع لما بين شقوق الخطاب السياسي السائد في بلدان الثورات، وتحديداً مصر وتونس اللتين تُحكمان اليوم مع فوارق نسبية من طرف «الإخوان» بما في ذلك حركة النهضة ذات الروافد الفكرية الإخوانية، يلاحظ أن المجتمع المصري والتونسي يعيشان على وقع عمليات تقسيم معلنة وغير معلنة وواعية وغير واعية.طبعاً قد يرى البعض أن الزج بالمثالين المصري والتونسي في بوتقة واحدة موقف غير دقيق وغير موضوعي. لكن ما يعنينا في هذه الورقة لعبة التقسيم وسياسة التقسيم وخطاب التقسيم أكثر منه مجالات التقسيم. ذلك أن الفوارق الكبيرة أو الطفيفة بين الأنموذجين المصري والتونسي تظهر في مسألة مجالات التقسيم بالأساس.وعلى امتداد المحطات التاريخية التي تمت فيها ممارسة لعبة التقسيم الخطيرة داخل أي شعب من الشعوب، كانت النتائج وخيمة وعميقة الجروح والتداعيات. ولا نكاد نعثر في تاريخ لعبة تقسيم الشعوب والمجتمعات على أي رصيد إيجابي يُذكر، مما يؤكد إفلاس هذه اللعبة منذ البداية إلى النهاية. فهي لعبة ضد فكرة المجتمع ذاته القائم على التضامن والوحدة، وتنتعش لعبة التقسيم من مجالات حساسة مثل الطائفة والدين والعرق والأيديولوجيا وغير ذلك. ومن ثم فهي لعبة ضد فكرة المواطنة التي تعلي من شأن الانتماء إلى الوطن كمقياس أساسي ومركزي للوحدة والتضامن الاجتماعيين، وتعتبر المجالات ذات الصلة بالدين والمذهب والدين والعرق من الدوائر الشخصية للأفراد.في تونس مثلاً رغم أن كل الدلائل والحقائق السوسيولوجية والتاريخية تشير إلى أن المجتمع التونسي لا تتوافر فيه العوامل السوسيولوجية المساعدة على توظيف لعبة التقسيم، بحكم غلبة معطى التجانس الديني والمذهبي على المجتمع التونسي عامة، فإن صعود حركة النهضة إلى سدة الحكم في تونس، وذلك بأغلبية نسبية، قد أدى بعد مدة وجيزة إلى ملاحظة بداية ظهور نوع من التقسيم داخل النخب إلى علماني وإسلامي. نعم النخب التونسية اليوم مقسمة حسب المعيارين العلماني والإسلامي، وهو تقسيم لا يقل خطورة عن التقسيمات الأخرى، باعتبار أن كل الخطر في لعبة التقسيم ذاتها بغض النظر عن مجاله والمستند الذي يتعيش منه!وإذا كان على مستوى الخطاب السياسي هناك يقظة من طرف رموز حركة النهضة وحرص ذاتي على عدم التلويح بهذه اللعبة، فإن الفيديو المسرب للأستاذ راشد الغنوشي منذ بضعة أشهر كشف عن وجود هذه اللعبة لدى حديثه عما سماه «الفئة العلمانية». فهذه النظرة التي تقوم على «الفئوية»، المرتبطة بدورها بتقسيم وتمييز أيديولوجي، ليست في صالح تجربة ديمقراطية جنينية في تونس ما بعد الثورة، ولن يتقبلها مجتمع لم يتعود سياسة التقسيمات.وفي الحقيقة الوقوع في مثل هذه المآزق أمر طبيعي ومنطقي ومتوقع لكل حكم يقوم على أيديولوجيا وعلى الفكر الدوغمائي، لأن الأيديولوجيا ضد الحياد وضد الموضوعية. كل صاحب أيديولوجيا دينية أو فكرية أو غيرهما إنما هو متعصب ومتشدد، فطن إلى ذلك أو لم يفطن.صحيح أن ثورتي تونس ومصر شكلتا مثالاً حياً على أن المجتمعات العربية والإسلامية حيّة نابضة وأيضاً تستحق حياة أفضل حقوقياً وتنموياً ومدنياً، لكن الخطر المسكوت عنه اليوم يتمثل في مؤشرات تدل على أن لعبة التقسيم بدأت تفعل فعلها في بلدان الثورات، حيث التقسيم في تونس بين علماني وإسلامي وثوري وأزلام النظام السابق، وفي مصر تتعدد التقسيمات بين الإخواني وغير الإخواني، وبين المسلم والقبطي. إن أخطر ما يمكن حصوله هو أن نفوت فرصة الانتقال الديمقراطي في مصر وتونس لبناء الوحدة والتضامن الاجتماعي باعتبار أن كل تقسيم مهما كان مجاله هو بالتعبير المجازي عبارة عن حرب أهلية غير معلنة. قد تكون لعبة التقسيم غير مقصودة من أي طرف، لكن الانتباه إليها ضرورة كي لا تنسف أحلام التغيير.نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية