عبقرية المكان التي يتصف بها الخليج العربي منذ أن كان جزءاً من طريق الحرير، عادت لتجعل الاتصالات الدافع المتجدد لأهميتهقدر للخليج العربي الانتقال من الهامش، ليكون مرتكزاً للتحولات الكبرى في كل منعطف تاريخي، فحين فشلت بريطانيا في عام 1859 بربط مستعمراتها في الهند بخط تلغرافي عبر البحر الأحمر، تجددت أهمية الخليج كممر للتلغراف الهندي – الأوروبي. وبالرغم من أن القوى المحلية على ضفتي الخليج كانت تستعدي مروره، إلا أن بريطانيا نجحت في إيصاله للهند بالاتفاق مع شيوخ القبائل المار بأراضيهم، أو بوضعها حراسة كل بضعة أميال، ثم بتوقيع اتفاقات مع شيوخ إمارات الخليج لحمايته. ومنها ما تم مع عمان عام 1864 ومع الشيخ مبارك الصباح عام 1912. وكان تكليف شيخ لحماية الخطوط مظهراً من مظاهر سيادته على الأراضي التي يحميها. وحماية التلغراف هي الذريعة التي اتخذها شاه إيران ليطالب بمكران جميعها، من بندر عباس إلى حدود مقاطعة السند البريطانية، بحكم أنه كان يسيطر على هذه الأراضي، بينما كان فعلياً يحمي سلكاً معلقاً على أعمدة فحسب. لقد مر التلغراف بالفاو والكويت والبحرين والإمارات وأبو شهر ووجوادر ومكران، وفي مسندم احتل البريطانيون جزيرة صغيرة كمحطة تلغراف يسهل الدفاع عنها، وسميت منذ عام 1864 حتى الآن «جزيرة التلغراف».كانت سكك الحديد هي مشاريع الاستثمار الكبرى في القرن التاسع عشر، لكن خط برلين بغداد الألماني توقف عن الوصول للخليج عام 1900، حين صد الشيخ مبارك الصباح «الهر ستمرش Stemirsh» بدوافع بريطانية. ثم ظهرت وسيلة الاتصالات الأخرى التي أعادت للخليج أهميته في الربع الأول من القرن العشرين، وتمثلت في مدارج هبوط الطائرات، وكانت تنتشر على الساحل العربي والفارسي على حد سواء. وبمزيج من الدبلوماسية والإكراه، نجحت بريطانيا في تأسيس مطارات صغيرة على طول الساحل العربي رغم إظهار الحكام عدم الرضا لخشيتهم من المساس باستقلالهم. لقد حاولت بريطانيا أن تجعل سماء الخليج مجللة بالغيوم البريطانية، كما سبق أن جعلت مياهه بحيرة بريطانية، لكن الحرب العالمية الثانية أثبتت استحالة ذلك حيث مزق بطل إيطاليا «الفاشية» الطيار إيتوري ميوتي»Ettore Muti» الغيوم البريطانية بـ 132 قنبلة على مصافي النفط في البحرين صباح 19 أكتوبر 1940. أما زميله فيدريشي فعوض ضياعه بالإغارة على مصافي نفط الظهران. واستمر الخرق للاستحكامات البريطانية خلال الحرب حيث نجحت الغواصة الألمانية «U-533» في دخول البحيرة البريطانية المقدسة، لكن الطائرات الأمريكية والبريطانية نجحت في اللحاق بها وإغراقها، ولم ينج من بحارتها الـ53 إلا الميكانيكي غونثر شميت «mechanic Gunther Schmidt»، الذي سبح مرتعشاً لشاطئ الفجيرة صباح 16 أكتوبر1943.البحث عن الغواصات في عمق الخليج وتدميرها مازال مستمراً من قبل القوات البريطانية والأمريكية، كما كان منذ مائة عام، ذلك هو الثابت السالب، لكن المتغير الإيجابي هو انضمام سفن حربية خليجية للتصدي للغواصات المعادية، حيث شاركت السعودية في تمرين سمك القرش العربي Arabian Shark 2012 مع بحريات أمريكا وبريطانيا وباكستان. وتكمن أهمية المناورات البحرية الدورية أو العارضة أنها تعزز العلاقات العسكرية وتحسن التقنيات القتالية للدول المشاركة بهدف حماية أعماق بحيرتنا المقدسة عند غيرنا. عبقرية المكان التي يتصف بها الخليج العربي منذ أن كان جزءاً من طريق الحرير، عادت لتجعل الاتصالات الدافع المتجدد لأهميته. فقد ورثت أمريكا دور بريطانيا في بناء وحماية محطات الاتصالات اللاسلكية والكابلات البحرية، التي أضحت عصب الاقتصاد الحديث، حيث عززتها ثورة الإنترنت، فتجدد الطلب على ربط دول العالم بكابلات بحرية. فالمناورات البحرية مع بريطانيا وأمريكا وسيطرتنا على أعماق الخليج هي لاستثمار الخليج كمعبر للاتصالات الحديثة، وفي الوقت نفسه لحماية تلك الكابلات. ففي باب القيمة الاقتصادية تعد حماية الكابلات البحرية حماية لأحد آليات رفع القيمة الجيوستراتيجية لبلداننا، وحفظ لمكانة الخليج كمحور للاتصالات الدولية، فالكابلات التي تربط الشرق بباقي الإنترنت غرباً تمرّ بالخليج. فكم تحصل دول الخليج من رسوم مقابل هذا العبور؟ وكم تحصل على رسوم للصيانة، والضرائب، بل وحتى من الجزاءات حين الإخلال بشروط المحافظة على البيئة البحرية. إن انقطاع الكابلات البحرية يسبب ضرراً لاقتصاد الدول التي تشترك معنا فيها، ومما يزيد القلق أنه قد حدث انقطاعات عدة في الكابلات المارة بنا، والتي تصل الشرق بالغرب، ومنها انقطاع كابل فالكون أمام ميناء بندر عباس الإيراني، وتكتمت عليه السلطات الإيرانية. ثم انقطع كابل فالكون نفسه بين مسقط ودبي، أعقبه انقطاع خط بين قطر والإمارات، ثم خط لشركة فلاغ تيليكوم موجود في شمال شرق دبي، فهل ذلك حادث عرضي أم تخريب يدعو للقلق؟ وأين سفننا وغواصات حلفائنا من هذا العمل العسكري! حيث نشير لكتاب «خدعة الرجل الأعمى Blind Man’s Bluff» المشتمل على قصص عن جيل من الغواصات، تتنصت على كابلات الإنترنت البحرية، بل وتقوم بقطع تلك الكابلات ثم توصيلها بسرعة بعد أخذ تفريعة للتنصّت. وسأترك ما يجري في أعماق الخليج لخيالكم، وهو متكئ على سؤال محفز هو: لماذا أصيبت إسرائيل بالهلع حين دخلت غواصات الديزل الإيرانية القزمة «Midget Sub» البحر الأحمر في العام الماضي! المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج