بعد مرور أكثر من خمسة عقود على الثورة الكردية المسلحة الأخيرة، لاتزال على الجانبين (الحكومة المركزية والأكراد)، عقد كثيرة لم يتم التوصل إلى حلول لها، ويدرك أهل الجنوب أن معظم خيرات العراق تستخرج من مناطقهم، ويتحدث أشخاص من مناطق شمال بغداد وغربها عن القدرة على تحويل مناطقهم إلى دبي أخرى، في ظل إقليم مستقل. وتعارض حكومة المركز فكرة استنساخ تجربة إقليم كردستان، خصوصاً في مجال الأمن والثروة. وبـ«فضل» الاجتثاث فقد القسم الآخر من عرب العراق خبرة السياسة والإدارة دفعة واحدة، حيث غادر من غادر، وتوارى من توارى من خبرائهم وقادتهم السياسيين. والنتيجة التي لا شك فيها هي أن أي تجسيد لرغبات المفاصلة بين عرب العراق سيقود إلى «حرب انتقام إقليمية مدمرة» لا مثيل لها.الخائفون على دينهم تنقصهم الواقعية والرؤية الصحيحة، فالأديان السماوية أقوى من أي حالة طارئة أو مشاريع للتغيير القسري، والخائفون على عروبتهم ينطلقون من نقص في قراءة حقائق التاريخ والمعطيات الراسخة، والخائفون على هويتهم تعوزهم الثقة في النفس؛ لأن الهوية لا يغيرها إلا صاحبها، والساعون إلى الزعامة لم يتعلموا من انقلابات العراق المعروفة، وتغير المشاعر كدوامات الريح في بوادي الرافدين، والحالمون بابتلاع العراق لم يتفحصوا بعناية دروس التاريخ وتعقيداته، والمتحدثون عن الفساد في حاجة إلى البدء بأنفسهم ومحيطهم ومناطقهم وصولاً إلى المفاصل العليا. فهذا هو العراق وسيبقى.من الحقائق الثابتة أن القسم الأكبر من عرب العراق بقي توجههم صوب المغرب، رغم كل الدعايات والمعضلات، ولم يتجهوا صوب المشرق رغم الترابط الديني، فالسائح والتاجر والمستثمر والمريض والدارس واللاجئ يتجهون نحو البلاد العربية، فحقائق التاريخ لا تغيرها معطيات ظرفية قاسية تعمقت نتيجة العنف الذي انتشر في فترة ما بعد 2003، وإذا ما أخذ هذا القياس كأحد مؤشرات الترابط يمكن النظر بما هو أبعد وأعمق لمصلحة العراق أولاً، والإقليم العربي ثانياً، فالترابط بين الجوار يبقى عنصراً حاسماً من عناصر التقدم والازدهار، في مجالات عدة، وفي المقدمة منها الازدهار الاقتصادي، الذي يعتبر مدخلاً مهماً للاستقرار الأمني والسياسي ضمن المحيط المباشر.ووفقاً للخطط النظرية، فإن العراق متجه إلى صرف مبالغ طائلة خلال السنوات الخمس القادمة، لتطوير إنتاجه النفطي إلى مستوى تسعة ملايين برميل يومياً، وهو ما يفوق قدرة موانئه التصديرية بملايين البراميل، وسيكون في حاجة إلى منافذ جديدة وآمنة لتصدير النفط، وهي متاحة من الآن عبر الأردن، ويؤمل أن تتاح قريباً عبر الأراضي السورية. وعلى افتراض تصدير مليون برميل يومياً عبر الأردن ومثلها عبر سوريا، فإن خطوط النفط العراقية ستكون بعيدة عن معضلات الخليج العربي، وستوفر مردودات مالية لبلدين على صلة وثيقة بالعراق في الماضي والحاضر والمستقبل. وعندما تكتسب خطوط النفط الأهمية، فإنها ستكون مرافقة لمشروعات نفطية، كالمصافي ومعامل البتروكيماويات.الكلام الطويل والعبثي عن الوحدة الاقتصادية أخذ الكثير من مساحات الدعاية السياسية الحزبية والتنظيرية للجامعة العربية، ولم يحقق خطوة واحدة فعلية إلى الأمام. أما الربط النفطي في بلدان تلتقي مصالحها المشتركة، فسيترك أثراً أعمق تأثيراً وأكبر مردوداً من كل الشعارات التي لم تجلب للناس استقراراً ولا رفاهاً. وهذه دعوة مفتوحة إلى الحكومتين العراقية والأردنية لوضع بحوث الربط النفطي وسكك الحديد موضع التنفيذ، وفتح أبواب الاستثمار على مستوى الأفراد وصناديق الدولة، بما يساعد على أداء اقتصادي كبير، يتعدى أطر التعاون المحدود. وعراق موحد مستقر سيكون في مصلحة النظام السياسي الجديد في سوريا، التي ستحتاج إلى أرقام فلكية من الأموال لإعادة البناء لكل المرافق والإنشاءات العامة والخاصة.العراق الموحد المستقر وحده القادر على تغيير وجه المشرق العربي، بقوة نفطه المتدفق، وحاجته إلى ملايين العمالة الماهرة والعادية على المدى القريب، وليس العراق المفكك سياسياً واجتماعياً الذي تسوده لغة الكيانات والطوائف والشرائح، والحزبية المتشنجة، وعنتريات تجار الحروب من الانتهازيين النفعيين.وفي ضوء هذه الصورة، لا أرى مبرراً للقلق من العلاقات العراقية - السورية، في مرحلة ما بعد التغيير السوري. ومن مصلحة العراق وضع خطط التعاون الاقتصادي من الآن لتأمين موانئ تصدير وتوريد على البحر الأبيض المتوسط، أما العمالة السورية فستكون منشغلة لعشرات السنين في إعادة إعمار ما دمرته وما ستدمره الحرب.عن جريدة الشرق الأوسط