أقترح على سلطات الاتهام في مصر، الاكتفاء بالقضايا المرفوعة ضد رجال ونساء النظام السابق، وعدم إضاعة وقتهم ووقت الشعب المصري في البحث عن اتهامات جديدة يتم توجيهها إليهم. واقتراحي هذا يستند في شرعيته إلى نفس الأساس الذي استند إليه قفل باب الاجتهاد، وأيضا إلى قاعدة حياتية معروفة لأهل الشرق والغرب وهي أن «الضرب في الميت حرام»، أما في الغرب فالقاعدة تقول «ضرب الحصان الميت حماقة - Beating dead horse is foolish»، هؤلاء جميعا أحصنة نافقة من الحماقة، والحرام أيضا، الاستمرار في ضربهم بالمزيد من التهم بدافع من الرغبة في الانتقام أو تأكيد الذات أو حتى بحثا عن عدالة مطلقة. لست أطلب العفو لأحد منهم، ولا حذف بعض التهم التي ينوءون بحملها، أنا فقط أطلب أن يتفرغ الشعب المصري لحل مشكلاته بعيداً عن حالة التوتر الحادة العامة التي تحدثها تلك القرارات المفاجئة باتهامات لهم ولشركاء مفترضين لهم.إن قرار الاتهام بالتلاعب في البورصة، وهي التهمة الموجهة أساسا للسيدين جمال وعلاء مبارك والذي شمل 21 مستثمرا في مصر، ومنعهم من السفر والتصرف في أموالهم، نزل على البورصة المصرية كالصاعقة، كما أطلق صفارة إنذار لبقية رجال الأعمال للتفكير في النجاة بجلودهم غير أن الله سبحانه وتعالى كان لطيفاً بنا وبهم فصدر بعد أيام حكم محكمة الجنايات بإلغاء هذا القرار. ولكن من المؤكد أن هذا القرار خلّف جرحاً عميقاً في قلوب وعقول كل رجال الأعمال في مصر. أريدك أن تلاحظ أن هذا حدث في الوقت الذي نغازل فيه رجال الأعمال المصريين وغيرهم في الداخل والخارج للعمل في مصر واستثمار أموالهم فيها.ربما يمثل حكم الإلغاء هذا أهم متغير في مصر بعد ثورة يناير، لم يعد القضاء تابعاً للسلطة في مصر، أو متأثراً بها أو خائفاً منها أو مجاملاً لها، هو قضاء يمارس عمله في إقرار العدل وسيادة القانون. ليس معنى ذلك أن القضاء المصري قبل الثورة لم يكن يعرف العدل ولكن بعض دوائره كانت امتداداً للسلطة بالفعل، كانت دوائر قليلة غير أنها كانت كافية للتنكيل بالخصوم.حرية التجارة هي أهم وأخطر حريات هذا العصر، إنها حرية المرور لأفكار الإنسان الفرد إلى بقية أفراد المجتمع، إنها حرية العمل والتفكير وقد تجسدت مشاريع على الأرض. حرية مرور السلعة لا بد أن يسبقها حرية مرور الفكرة، ومع تسليمي بأن رجال الأعمال ليسوا ملائكة غير أني على يقين أنه لا يوجد ملائكة على الأرض. بغير رجال أعمال واسعي الخيال والخطوة، يتحركون على الأرض آمنين، لا يحدث ولن يحدث عمران على الأرض. وهم قادرون على صنع تنظيماتهم الخاصة بهم يحمون بها تقاليد العمل في مواجهة المغامرين أصحاب الخبطات المالية السريعة. وعندما نقول إن رأس المال جبان فنحن نعني أنه حساس جدا لحركة السلطة وطريقتها في التعاون مع مشاريعه.إن خروج رجل أعمال من مصر ومن السوق المصرية يأسا أو خوفا أو حتى قرفا يشكل ضربة مميتة لحاضر المصريين ومستقبلهم. وعلى كل رجال السلطة أن يفهموا أن رجال الأعمال ليسوا إدارة من إداراتهم، وأنهم ملتزمون فقط بالنجاح في مشاريعهم. إذا تصورت للحظة أن صلة ما تربطني برجال أعمال في مصر، فأنت خاطئ. أنا فقط أؤمن بقدرات الإنسان الفرد في كل مجال، كما أؤمن أن الجموع لا تصنع ولا تصون حياة البشر ومستقبل البلاد كما علمتنا الأفكار الاشتراكية من قبل، بل ومن كل التطبيقات العملية المحيطة بنا في كل مكان في العالم، أصبح واضحاً لكل الناس أن الإنسان الفرد هو من يجر عجلة التاريخ والحضارة إلى الأمام.لست أتكلم عن الفرد الحاكم أو الزعيم أو القائد، أنا أتكلم عن الفرد العادي في كل مجال. فالمتوقع من الفرد الزعيم في أي مرحلة، هو القضاء على أي فرد في مجتمعه تظهر عليه علامات النبوغ. وظيفة صاحب السلطة في مصر هي حماية كل من ينتج شيئاً. حمايته من الاتهامات المتسرعة ومن بقايا أفكار الاشتراكية التي ما زال البعض يجدون فيها سعادتهم. تستطيع أن تعود إلى المسلسلات التلفزيونية في مصر في تسعينات القرن الماضي، سترى فيها بكل وضوح أن رجل الأعمال ليس إلا وغداً ولصاً كبيراً يسرق أموال الشعب، كانت هذه هي صورته النمطية في كل هذه الأعمال.في الأسبوع الماضي نشر أصحاب مصنع كبير إعلاناً في الصفحة الأولى في الجرائد يستغيثون فيه بالمسؤولين ويقولون إنهم سيغلقون المصنع لأنهم عاجزون عن الاستمرار بسبب قلة من العمال تفسد العمل وتحرض العمال ضد أصحاب المصنع. ولم يهتم بهم أحد من المسؤولين، بل لم يهتم بهم أحد من ممثلي الرأي العام في الصحافة والإعلام وهي التي تقدم لنا كل يوم بطلاً جديداً من هؤلاء الذين يحبون مصر ويكرهون المصانع. هم جميعاً في أعمق أعماقهم يرون أن العمال على حق في كل الأحوال في مواجهة أصحاب المصانع الأوغاد الذين يعملون بدافع من الربح وحده وليس بدافع من حبهم لمصر، هل لديك تفسير آخر؟معظم القوانين في مصر تابعة للاشتراكية ونابعة منها وحامية لها، وإذا استطعت كصاحب مصنع أن تفلت منها، فلا بد أن تأتي لحظة تكتشف فيها أنك عاجز عن الاستمرار في عملك بسبب عدد قليل من عمال المصنع المخلصين للأفكار الاشتراكية والذين هم على يقين من أنك مصاص دماء يمص دماءهم نهاراً وليس ليلاً كبقية مصاصي الدماء المعتمدين الذين يرونهم في التلفزيون في أفلام ما بعد منتصف الليل. ولا يتحرك أحد من المسؤولين لحمايتك أو حتى لفهم ما يحدث في مصنعك.. إنها ثقافة الاشتراكية. وربما هي ثقافة الكراهية، كراهية الحياة وكراهية العمل. يحدث ذلك بينما يطير بعض كبار المسؤولين إلى بلاد العالم طالبين منهم أن يقيموا مشاريع صناعية في بلادنا. كما لو كنا ما زلنا نعيش في العصور الوسطى عندما كان من الصعب على سكان بلد أن يعرفوا ما يحدث في بلد آخر.ومع يأسي الشديد، أعتقد أنه ما زال في وسعنا تفادي الخراب الزاحف إلينا، أو الذي نسعى بإرادتنا وقراراتنا إليه، على السلطة في مصر أن توقف ماكينة الاتهامات، أو على الأقل أن تبطئ من دورانها إلى الحد الأدنى، وأن تكف عن استخدام القانون كهراوة لضرب الآخرين أو كلعبة في سيرك. وأن تقيم جسراً بينها وبين كل رجال الأعمال وخاصة هؤلاء الذين أغلقوا مصانعهم، وأن تعمل فوراً على إيجاد حل لهذه الازدواجية في الحكم التي تسمح لجماعة أو جمعية بالتحكم في قرار رجل الدولة.نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية