اتفقنا أو اختلفنا على توصيف ما حدث في مصر، كنا مع الإخوان أو ضدهم، كنا مع الحكومة المؤقتة أو ضدها، كنا مع هذا الفريق المصري أو ذاك، فليس هذا موضوعي، موضوعي وما أريد أن ألفت النظر إليه هو السياسة الأمريكية وديناميكتها تجاه الموقف من أحداث مصر وأحداث البحرين.فالسياسة الأمريكية الخارجية ممكن أن يعاد ترتيبها بناء على المتغيرات التي تجري في الساحة الخارجية بشكل يدعو للدهشة لشدة تناقضها وكيفية تسويق هذا التناقض، ولا يخجلون من تبدل مواقفهم العلنية، فليست المبادئ من يقرر المصلحة الأمريكية، بل المصلحة الأمريكية هي التي تحدد مبادئهم!! هذا هو الدرس الذي تعلمناه من مصر هذه الأيام ويجب أن يعيه صاحب القرار عندنا في مملكة البحرين. فمنذ 30 يونيو الذي خرجت فيه الملايين من الشعب المصري وعزل الرئيس وأسقطوا حكم الإخوان، وإلى الأول من أغسطس والإدارة الأمريكية تضغط على المؤسسة العسكرية المصرية وعلى الحكومة الانتقالية ضغطاً شابه في كثير من أدواته ما مارسته علينا الإدارة الأمريكية الحالية في البحرين.هددت الإدارة الأمريكية مصر بقطع المساعدات العسكرية عنها وبوقف صفقة الـ»إف 16»، مثلما هددت البحرين بمنع صفقة قطع الغيار. حركت الإدارة الأمريكية بارجتين عسكريتين في المياه الإقليمية في البحر المتوسط مقابل ساحل مصر حتى وإن لم تدخلا المياه الإقليمية إلا أنهما تشكلان ضغطاً وتهديداً لأمن مصر، مثلما فعلوا عندنا حين سحبوا الأسطول الأمريكي من القاعدة في البحرين بحجة الصيانة!! حاولوا أن يلعبوا على وحدة موقف وحدات الجيش المصري، من أجل إيجاد ثغرة ينفذون منها في المؤسسة العسكرية.كما حاولوا اللعب على وجود خلافات داخلية في الأسرة الخليفية في البحرين واستغلال وجود اختلافات وتحويلها إلى خلافات.لم يبقَ مسؤول أمريكي لم يزر مصر خلال الثلاثين يوماً، وكلما انتشر خبر زيارة أحد المسؤولين الأمريكيين تصاعد العنف. وهم ذات الأشخاص الذين لعبوا دوراً في الأزمة البحرينية، وكلما زاروا البحرين تصاعدت وتيرة العنف عندنا، وهم ذاتهم الذين ضغطوا من أجل وقف الحل الأمني ودفعوا باتجاه الاستنزاف الطويل للسلطة بدلاً من المواجهة، فجاءت لجنة بسيوني ومن بعدها لجنة تنفيذ توصيات بسيوني، ومن ثم جاء حوار التوافق الوطني، ومن بعده لجنة تنفيذ توصيات التوافق الوطني والحبل على الجرار، لقد وقعنا في فخ الاستنزاف المنصوب لنا ونجت منه مصر.... إلى الآن! أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي في مصر والبحرين قدموا «نصائح» عديدة للقيادات لكيفية التعامل السياسي والأمني مع أبطال «الربيع العربي» والدمى الأمريكية الصنع. أرسلوا آشتون التي تتحرك وكأنها «مندوبتهم» في الاتحاد الأوروبي، وحركوا كل منظمات حقوق الإنسان التي نسيت سوريا وتفرغت للبحرين ومصر، وفعلوا ما بوسعهم للضغط على البحرين ومصر من أجل منع تقييد حراك الجماعات الدينية فقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية الراعية الرسمية لها.استخدموا ذات الأدوات، مقالات في صحف، إشاعات، تسريبات، نشطت قناة الجزيرة وقنوات البي بي سي، منظمات حقوقية ممولة من قبلهم.لكن المصريين «جيشاً وشعباً» ثبتوا على موقفهم ولم يستمعوا لأي من «نصائح» الإدارة الأمريكية ولم يسمحوا لأحد بأن يتدخل، بل قيدوا حركة السفيرة حتى شلت يدها عن الحراك تماماً، وأعلنوا رفضهم للسفير القادم وهو إحدى أخطر الأدوات في تفكيك المواقف المناهضة للسياسات الأمريكية.. إلى الآن مصر صامدة أمام الضغوط الأمريكية.. وهذا هو الفرق بيننا وبين المصريين.اضطر بعد ذلك.. ورغماً عن أنفه.. جون كيري وزير الخارجية الأمريكية بعد كل تلك المحاولات أن يرضخ للإرادة المصرية الثابتة على موقفها والموحدة فأعلن في يوم 1 أغسطس أي بعد شهر من الضغط وشهر من الصمود المصري، بأن 30 يونيو كان يوم إرادة الملايين المصريين لا إرادة جيش، وبأن ما حدث ليس انقلاباً عسكرياً!!! صحيح أنه خفف من تلك التصريحات بعد ذلك لكن صمود المصريين أجبر الأمريكان على تغيير مواقفهم وإعادة رسمها من جديد بناء على أمر واقع فرض عليهم فرضاً.هنا نرى السياسة الأمريكية الديناميكية التي لا ترى حرجاً أبداً في الانقلاب 180 درجة، بعد محاولات استغرقت 30 يوماً لم يجدوا مرونة تطيل فرص تدخلهم وتطيل الأزمة المصرية كما وجدوها في البحرين وهذا هو الفرق. المجتمع البحريني صمد منذ البداية ولم يستسلم للضغوط الأمريكية وكانت مواقفه واضحة ومحددة وموحدة مع كافة أطراف الدولة من مؤسساتها العسكرية والمدنية ومع قيادات الأسرة، إنما المرونة التي أبدتها السلطة البحرينية في ما بعد تجاه «النصائح» الأمريكية هي التي أخرت الحل وسمحت بهذا الكم من الإرهاب والمعاناة لشعب البحرين، وسمحت بهذا الاستنزاف المتعمد والمقصود للأمن والاستقرار في البحرين، وإصغاء البحرين لهذه النصائح هو الذي مكن الولايات المتحدة الأمريكية وأعطاها المجال لإعادة ترتيب أوراقها لتحول قواعد اللعبة من السقوط المدوي للنظام إلى لعبة الاستنزاف التفاوضي للنظام.ثبت إذاً أن الأمريكان يضغطون مادامت هناك فرص للضغط، أما حين يشعرون بأن هناك ثباتاً في الموقف فإنهم يستسلمون لهذا الثبات ويعيدون رسم خطواتهم بناء على هذا المتغير.وهذا هو الدرس الذي منحتنا إياه جمهورية مصر العربية بتعاملها مع «النصائح» الأمريكية.... فهل نتعلم.