5691 كان عاماً ساخناً عرفته البحرين، حيث كنا في مدرسة الحورة الإعدادية للبنين في الحورة وتحديداً في منطقة كانت تعرف بـ«لبنان» تندراً، لما عرفت به لبنان من جمالها وروائح غاباتها وأرزها الذي تتخذه شعاراً لها، مقارنة مع ما يعانيه أهل لبنان البحرينية من روائح هي الأكثر نتانة على الإطلاق. كانت بيوتها عبارة عن عرشان وبرستية بُنيت من سعف النخيل، ولا وجود لبيوت طينية في منطقة حاصرتها حرائق ازدادت إبّان تلك الفترة وما سبقها للتخلص من بيوت السعف وساكنيها بحرائق قيل أنها مفتعلة، خاصة أنها تشب في عز الشتاء مع اشتداد سرعة الريح ما يجعلها تتنقل بين البيوت دون أن تجد من يقف بوجهها ويصدها عن بغيتها.كنا نذهب إلى المدرسة ـ الصرح التعليمي الإول في المنطقة ـ بعدها كان المعهد الديني ولكن على طريقة «وين إذنك ياحبشي» تفادياً لروائح قد تعترض طريقنا إلى يوم دراسي جديد. هذه الفترة كانت عالية السخونة والمظاهرات تنتقل إلى المدارس كالنار تسري في البرستية، كنا شباباً في فترة المراهقة وأعمارنا لم تتجاوز السادسة عشرة وأغلبنا كان ينتظر المتظاهرين ليرمي بكتبه من فوق سور المدرسة وينتظرهم ما أن يصلوا إلى المدرسة حتى يكون وصل إلى البيت.أجل «كل يغني على ليلاه» فهناك من ينشدون طريق العودة إلى البيت وآخرون يذهبون بالاتجاه المعاكس بحثاً عن مدارس البنات ليخرجوهم من فصولهم بحثاً عن الحبيبة.. فيما هناك سياسيون ينشدون القيادة والسير بالتظاهرات.هذه الأحداث أصبحت تتكرر يومياً واتخذ الكثيرون منا قرار الذهاب إلى المدرسة لإثبات الحضور ليس إلا، ولم نكلف أنفسنا بإحضار الكتب كي ننطلق بسرعة الريح دون شنط وكتب تثقل حركتنا، وهو ما جعل بعض الأهالي يبقون على أبنائهم وبناتهم في البيت من باب السلامة. الوالد اتخذ قراراً بعيد المدى بأن يرحلني من البحرين بداعي السياحة وزيارة شقيقي علي في الكويت بعد نفيه إليها مع مجموعة من البحرينيين، وكان في تلك الفترة يحرر مجلة «الطليعة» التي يملكها سامي المنيس ويخرجها فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي «حنظلة»، فرحت بالسفر لسببين أنها المرة الأولى التي أزور فيها الكويت ولأني سألتقي شقيقي بعد فترة طويلة كانت علاقتنا خلالها تقتصر على الرسائل، والأهم أني سأركب الباخرة لأول مرة في حياتي.عندما وصلت الباخرة إلى ميناء الشويخ في ليلة قضيناها أنا والوالد على ظهر الباخرة، كنت أتمنى ألا يغالبني النوم فيها لأستمتع بمشاهدة مياه الخليج العربي الزرقاء، وكانت أسماك البحر تتراقص وتتطاير مع خروج الشمس من قلب البحر كمن يستقبل حبيبه من بعد غياب، كان عريس الحفل هو الحوت «الدقس» الذي يتراقص ويبعث بنافورة إلى سطح الماء معلناً عن هذه الفرحة واستقبال الباخرة على طريقته الخاصة، كنت لا أود أن أفوت رقصة الدرافين وهي تقفز الواحدة تلو الأخرى باستعراض للمهارات أمام أعين المسافرين لكنها «النوده» عندما تداهمك تصبح في خبر «نام» عندما دخلنا الكويت ندسني الوالد «وصلنا ياوليدي» قفزت من فراشي في سطح الباخرة ورحت أكتشف الكويت من خلال البواخر المتراصة في الميناء وأتابع الباخرة وهي تأخذ مكانها في الفرضة. في الكويت شعرت للوهلة الأولى بما كنت أقرأ من رسائل شقيقي أن الجو في هذه الفترة «نار يا عزيزي نار»، والطوز مسيطر في جو مرتفع الحرارة لا ينفع معه مكيف ولا «سنترال»، كنا في بداية شهر جون شعرت من خلال تجوالي في عز الظهيرة أن البلد مهجورة.. كنا نسكن في وسط البلد وبالتحديد في منطقة «دروازة عبدالرزاق» وبالقرب منها سوق «اليمانية» المشهور ببيع الملابس الشعبية والقحافي ويطلق عليه السوق المسقف، كنت أحاول استكشاف البلد ودرجة الحرارة وصلت حدها حتى شعرت أن الدم يسيل من شفتي من شدة الجفاف، ولم يرحمني لا مبرد ولا مثلج فقررت العودة سريعاً إلى الشقة لأحتمي بالمكيف عساه يعينني على بلواي. كنت وأصدقاء شقيقي ورفاقه بالسكن نحتمي من الحر بأن نختار فيلماً هندياً في سينما الأندلس بعد تناول الغداء هرباً من انقطاع الكهرباء والحر، ولأن الفيلم الهندي لا ينتهي قبل أربع ساعات يكون المساء قد حل والشمس ودعت وهي فرصة لأخذ غفوة في السينما اكتشفت بعدها أن الكثير من المقيمين في الكويت يمارسون نفس الحيلة للهرب من الحر، ولذلك كانت السينما تزدحم بالحضور ومن الصعب أن تجد كرسياً شاغراً في فترة الظهيرة.الربع في الشقة كان عددهم يفوق السراير فعددهم يفوق الخمسة فيما السراير المتوفرة لا تتجاوز الثلاثة، لذلك فهم ينامون عليها «بالقرعة» حياتهم كانت مليئة بالتعاون والصداقة وجعلت منهم طباخين محترفين بعد أن «تعلموا ألتحسونة في رأس القرعان»، كان تحت العمارة خباز وكانوا ينزلون له السلة بالحبل على طريقة الأفلام في السينما المصرية ليلياً كانوا يقضون على خمسين خبزة وصفرية لوبة، وقبل أن أقرر العودة للدراسة في البحرين وبعد أن عادت الأمور لطبيعتها قضيت أياماً جميلة مع شلة المحبة والفرح والمعاناة من الغربة خارج الوطن، وكنت أسمع سوالفهم ومعاناتهم وأرى الحزن في عيونهم، فمنهم من لم يرَ طفله المولود أو والدته المتوفاة ولم يشارك في عزائها، والكثير من القصص الحزينة كنت أسمعها وأشاهدها في عيون بعضهم ونحن نحضر الفيلم الهندي، وكم كان تأثرهم بالمشاهد في الفيلم والبكاء مع البطل وكان «خليل» بطل هذه الدموع وقد تكون قصة حب عاشها ولم تكتمل ودائماً ما يرى الحبيبة من خلال هذه الأفلام التي أدمنها دون الآخرين. الرشفة الأخيرةفي بلادي تعودت أن أسمع الأخبار الجميلة وأن التقي كل ناسها الطيبين وأسافر بين دواعيسها وداخل عيونها وأحلم وأنا مستلقي على سطح رموشها بالقمر يعانق الغيوم ويتجول بين النجوم.البحرين ستظل العروس التي يحلم الجميع بالفوز بنظرة من عيونها أو ابتسامة من شفاهها ويتغنى الجميع بطيبة أهلها التي عرفت منذ أسطورة «جلجامش» وتغنى بها الفنان الصديق أحمد الجميري « يالزينه ذكريني لي غيبتني بحوروبشوق ناديني يمكن الدنيا تدوربارد ويالقيض والا الشته لي ردوالا مع الأشواق وسط الربيع والوردوإنه بعيد .. بعيد ما عندي غير الآهحملت بيم السمه شوقي لكم وياهحلفت ياللزينة ما فارق البحرين في قلبي محفورة مرسومة وسط العين وستبقى البحرين تلك الحبيبة التي حفرت في القلب ولا ترى العين ما هو أجمل من «طلتها».