تشعر تركيا، وبخاصة منذ تولي حزب الحرية والتنمية والسلطة، بحالة من الضياع السياسي الدولي وضياع الهوية فهي تقع على الحدود الشرقية لأوروبا والحدود الغربية لآسيا، وهي كانت قوة عظمى في عهد الدولة العثمانية التي أطلق عليها في السنوات الأخيرة من عمرها، أي منذ أواخر القرن التاسع عشر رجل أوروبا المريض، ثم جاءت الحركة الكمالية لتغير من انتماء الدولة التركية من ثلاث زوايا؛ الأولى إنهاء علاقاتها بالتاريخ العثماني وإلغاء الخلافة العثمانية، وثانيها الارتماء في حضن أوروبا وثالثها قطع كل صلات ثقافية بالمنطقة العربية، وبخاصة اللغة وأسلوب كتاباتها، فأعادت كتابة اللغة التركية بحروف لاتينية بدلاً من الحروف العربية، وأعلنت الثورة الكمالية التوجه السياسي العلماني الذي يفصل بين الدين والدولة اقتداء بالتطور الأوروبي كما لو كان الدين هو سبب تخلفها وضعفها.ودخلت في عملية من الصراع الذاتي الداخلي بين جذور تركيا الإسلامية وبين تطلعاتها الأوروبية، ومن ثم فقدت تركيا هويتها القديمة ولم تستطع أن تعثر على هوية جديدة لأن أوروبا بحكم تراثها تنظر نظرة ملؤها الشك والريبة تجاه الجذور الإسلامية لتركيا.لكن السياسة الأوروبية قامت على أساس المصلحة الاستراتيجية، ومن ثم سمحت لتركيا لأهمية موقعها الاستراتيجي في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق، بالانضمام لحلف الأطلنطي، واستخدمت كجندي مشاة في هذا الملف عند الضرورة من ناحية، وكمكان للمراقبة والاستطلاع على الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية السوفيتية، وآسيا الوسطى السوفيتية من ناحية أخرى، ولكن لم يسمح لتركيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي رغم مساعيها عبر السنين، بما في ذلك مساعي أردوغان الذي كرر مراراً وتكراراً رغبته في الانضمام للاتحاد الأوروبي وأدخل العديد من الإصلاحات حتى يرضى عنه الاتحاد الأوروبي، حافظت تركيا على علاقات استراتيجية وثيقة مع إسرائيل. ظلت تركيا حائرة حيث يهاجر مواطنوها للبحث عن عمل في ألمانيا، وترتبط بالغرب بمنحها إياها قواعد عسكرية على أراضيها في إطار حلف الناتو، ولكن يتم كبح طموحاتها في قبرص، وبلغ هذا التعامل الدولي الأوروبي مع تركيا أشد مظاهره في ضم قبرص، ماعدا الجزء التركي، للاتحاد الأوربي، وما عدا تركيا بالطبع، واحتضن الاتحاد الأوروبي كلاً دول أوروبا الشرقية بعد تحررها من الاتحاد السوفيتي الذي انهار عام 1991 وتراجعت القيمة الاستراتيجية لتركيا. وعندما نجح حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان في الوصول للسلطة فاتجه نحو الإصلاح الداخلي ووضع حداً للفساد لعل أوروبا ترضى عنه دون جدوى وبحثت تركيا مجدداً عن جذورها، فاتجه للشرق العربي الإسلامي للاستناد إليه لتعزيز مسعاها نحو الاتحاد الأوروبي، وعندما استطاع حزب العدالة والتنمية تحقيق تقدم اقتصادي عاد إليه الاعتداد الزائد بالنفس، وسعت لتعزيز دورها فاحتضنت منظمة المؤتمر الإسلامي وعقدت قمة إسلامية لديها، ورشحت احد مفكريها أكمل الدين إحسان اوغلو ليكون أمينا عاما للمنظمة التي أصبح اسمها منظمة التعاون الإسلامي، وتدهورت علاقاتها بإسرائيل لسعيها للزعامة في قضية فلسطين، وأرسلت أسطول مساعدات بقيادة تركية، فلقيت السفينة التركية مرمره إهانة بقتل 9 من أفرادها بهجوم إسرائيلي عندما اقتربت من المياه الإسرائيلية، كما انسحب أردوغان من إحدى جلسات مؤتمر دافوس، عندما عقب شيمون بيريز في جلسة على أقوال أردوغان ونقده للسياسة الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين، ورغم أن احتجاج أردوغان وانسحابه كان أمراً شكلياً فإنه بهذه الحركة اكتسب شعبية لدى العرب. ونفس الشيء حدث في الخلاف بين تركيا وإيران بعد أن كانا حليفين، وكان محور الخلاف هو بحث تركيا وإيران عن أدوار متنافسة، وهذا يعكس الصراع التاريخي بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية وطموحات كل منها تجاه العالم العربي الذي كان خاضعاً للاحتلال العثماني باسم الخلافة الإسلامية التي كانت بريئة من ذلك، لأن تركيا العثمانية لم تكن خلافة راشدة، وسعى أردوغان الذي أطلق عليه شعبياً في تركيا لقب السلطان، لأنه كان يسعى لإحياء الخلافة العثمانية ليجد فيها مصدر قوة، وعزز علاقاته مع الدول العربية خاصة دول الخليج العربي سعياً للحصول على الاستثمارات والتجارة وتقديم خدمات أمنية في إطار مبادرة إسطنبول عام 2004 المرتبطة بحلف الناتو. كما توثقت علاقات تركيا بمصر في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي لعب دوراً في الوساطة بين تركيا وسوريا عندما تأزمت وكادت تحدث اشتباكات على الحدود بينهما.وانقلبت تركيا ضد مبارك بحدوث ثورة 25 يناير التي وجدت تركيا فيها قوة إسلامية يمكنها قيادتها، وهنا وقع الخلاف بينها وبين مصر الإخوانية، وهو خلاف في إطار طموحات المشروع الإسلامي الذي تطلعت إليه قوى ثلاث هي مصر وتركيا وإيران. وهو مشروع واجه نكبة بسقوط حكم الإخوان في مصر، ومن هنا سعى كل من تركيا وإيران إلى لملمة الشتات، وكل منها اعتمدت على مصادر قوتها حيث كانت تركيا أكثر قبولاً عربياً، وأكثر قوة، وأكثر قبولاً للتحالف مع الغرب، وهاجمت تركيا نظام ثورة 30 يونيو 2013 لطموحاتها واستضافت مؤتمراً للحركة الإخوانية الإسلامية العالمية، وهي حركة ضعيفة ولا قوة لها، يحركها إخوان يعيشون مثل تركيا على هامش أوروبا.من ناحية أخرى كان يتم استخدامهم بوعي أو بغير وعي للمصلحة الغربية في دول العالم الإسلامي، مما أحدث فرقة بين المذاهب الإسلامية وأيضاً مع المسيحيين ومن ثم قدموا خدمة جليلة لأوروبا لإعادة سيطرتها على المنطقة بدعوى حماية الأقليات ومحاربة الإرهاب الإسلامي. وصفوة القول أن الموقف التركي تجاه التجمع الإسلامي الإخواني الذي انعقد في إسطنبول في 13/7/2013 كان مدفوعاً بثلاثة اعتبارات هي: 1. الخوف من اقتداء الجيش التركي بالجيش المصري للانضمام لصفوف جماهير الشعب المعارضة للحكم العثماني الموسوم بالسمة الإسلامية. 2. القلق والإحباط التركي من إخفاق تجربة الإخوان في مصر واحتمال انتقال عدواها لتركيا خاصة بعد تظاهرات منطقة «تقسيم» وبروز موجة من النقد الشديد لسياسات أردوغان ومطالبته بالاستقالة. 3. طموح أردوغان للسلطة وسعيه لتغيير الدستور لإعطاء صلاحيات للرئيس وأن يترشح رئيساً للدولة على غرار نموذج فلاديمير بوتين في روسيا. أما القلق الإيراني فهو يتماثل مع مسببات القلق التركي في الإحباط من فشل التجربة الإخوانية وانتقال عدواها لإيران خاصة أنها مثلها في تركيز السلطة الحقيقية في يد المرشد والإخفاق الاقتصادي الإيراني مثل الإخفاق الاقتصادي المصري في عهد الإخوان، ولكن ربما كانت إيران أكثر ذكاء في استخدام الرئيس المعتدل حسن روحاني لإصلاح الجسور مع دول مجلس التعاون الخليجي على غرار ما فعل خاتمي ورفسنجاني، وكذلك تحسين صورة إيران الدولية بخصوص برنامجها النووي، وموقفها في الأزمة في سوريا. ولقد حققت إيران نجاحاً في الحفاظ على النظام السوري ومن ثم حمت أهم قاعدة خارجية لها رغم كل التحديات والكلفة التي تحملتها وساعدتها في ذلك روسيا لصراعها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، المترددة في سياساتها خلال الفترة الثانية من حكم أوباما، بصورة تذكرنا بالانكماش الأمريكي الدولي بعد إخفاقها في حرب فيتنام، ولذلك تلجأ أمريكا لاستخدام القوة الناعمة لإحداث ما تسعى إليه من تغيير في الدول العربية لتحقيق مصالحها وهكذا تعيش المنطقة العربية في حالة صراع دولي بأبعاده الاستراتيجية وطموحات قواه الإقليمية.