ها هي أيام الشهر الفضيل تمضي بنا سريعاً نحو انقضاء ثلثه الثاني، فما أسرع مرور الأيام وتعاقب الأزمان!، وإنها لآية للمعتبرين، وذكرى للذاكرين، وها هي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك تتراءى في الأفق مئذنة برحيل شهر انتظرناه، فكم كنا بلهفة واشتياق لاستقباله والأُنس بأيامه ولياليه، عقدنا الآمال فيه لزيادة الطاعات والقربات، ومحو الذنوب والسيئات، فيا سعادة من فاز بالقرب من ربه بكثرة الطاعات والقربات، وياخسارة من تعلق بحبل الآمال وترك شريف الأعمال، وانشغل بالملهيات عن خير الليالي والأيام.عشرة أيام أو أقل هي خاتمة هذا الشهر المبارك، فالضيف العزيز الذي طالما انتظرناه بدأ يلملم أيامه ولياليه مستعداً للرحيل، ولكن فضل الله عظيم، فما زال في ما بقي خير كثير لمن جدد النية وعقد العزم لاستغلال ما بقي من أيامه الغر ولياليه المباركات، فلعل هذه العشر الأخيرة من رمضان تشحذ الهمم وتسمو بالنفوس. فقد كان النبي يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال وقرب وطاعات، ومن جملة هذه الأعمال الفاضلة في هذه العشر المباركة :- الاجتهاد بالطاعات والقربات:فقد كان من هدي الحبيب المصطفى، أنه يجتهد بالطاعات والقربات في هذه العشر ما لا يجتهده في غيرها من الأيام، فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ)). وكان من هديه في هذه العشر أنه يحي ليله ويوقظ أهله لينالوا من رحمات الله وبركاته، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها:(( كان النّبِي إِذا دخل العشرُ شد مِئْزرهُ، وَأَحْيا ليْله، وأيقظ أهله)).- الاعتكاف في هذه العشر:كان من هديه أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قَال:((كان رسول اللَّه (ص) يعْتكف الْعشر الأَواخر من رمضان ))، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النّبي (ص) يعتكِف الْعشر الأَواخر من رمضان حتَّى توفّاه اللَّه، ثمَّ اعتكف أزواجه من بعده))،وقد روى البخاري أن النبي (ص) اعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين يوماً.قال الإمام الزهري - رحمه الله- : «عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي (ص) ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل».- تحري ليلة القدر: كان من هديه (ص) في هذه العشر الأخيرة من رمضان أنه يتحرى ليلة القدر، وهي أفضل ليالي العام، قال رسول الله (ص): ((التمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وترٍ ))، فيا سعادة من نال بركتها وحظي بخيرها، ويستحب الإكثار من الدعاء فيها، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسولَ اللَّه أرأَيت إِن علِمت أي ليلة ليلةُ القدرِ ما أقول فيها قال: ((قولي اللهم إِنّك عفوّ كريم تحبّ الْعفْو فاعْف عنى)). فينبغي أن نعقد العزم في هذه الأيام والليالي المباركات لاستدراك ما فات، ولنستعد لها بأفضل القربات، ولنملأها بأنواع الطاعات، لنفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، وليكُن همنا في هذه العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك أن نرِي الله منا خيراً، فالمحروم من حرم خيرها وبركتها، جعلنا الله ممن ينالون ثوابها وأجرها.