إننا في كثيــر من الدول الناميـة نحرص على الترويج لمفهوم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ونفسح المجال لجمعيات المجتمع المدني للقيام بهذه المهمة النبيلة، ولكننا في بعض الأحيان نواجه بثلاث معضلات تثير التساؤل والشكوك. أولها إن بعض تلك الجمعيات يتم تبنيها من قبل مؤسسات رسمية وغير رسمية من دول أجنبية حيث تقدم لها التمويل الوفير وترفض إخضاعها للقانون الوطني وللرقابة المحاسبية على أوجه الصرف والإنفاق وثانيها إن بعض هؤلاء الذين يطلق عليهم نشطاء سياسيون أو حقوقيون نصيبهم محدود من الثقافة السياسية أو الحقوقية ويحصلون على هذه الألقاب بلا معايير واضحة أو مؤهلات علمية اللهم إلا تبني وتأييد هيئات أجنبية لهم وأحياناً منحهم جنسية دول أجنبية تدافع عنهم في مواجهة بلادهم بهدف خدمة مصالحها وثالثها إن بعض تلك المنظمات الحقوقية، لنقص الكفاءة والخبرة والمعرفة العلمية والقانونية والسياسية لديها، تعتبر نفسها فوق القانون الوطني، ومن ثم تضع أجندة لعملها لا تتماشى مع أولويات مجتمعها ولا تعكس اهتماماته ولا تعبر عن احترام القانون الوطني كما لو كانت هذه المنظمات فوق القانون. ولعله من الضروري إن أؤكد أن اهتمامنا بموضوع حقوق الإنسان يجب أن يكون اهتماماً حقيقياً وأصيلاً ينبع من قيم مجتمعنا ومن تراثه وحضارته التي تمتد عشرات القرون، ولذا فإنه على هؤلاء الناشطين أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعاتهم في أولوياته وأجندته، وأن يكون تمويلهم وطنياً، وأن يحترموا قوانين بلادهم أسوة بنظرائهم في الدول المتقدمة، ونريد أن ينطبق عليهم نفس المعايير التي تطبقها الدول المتحضرة، إذ لا نجد في تلك الدول منظمات مجتمع مدني تعمل من الخارج وتهاجم بلادها، بل إننا نجدها تحتضن نظيراتها في بلادنا تمويلاً وتدريباً وترويجاً، وهذا من المفارقات التي تجعلنا نتساءل أين معايير الأمم المتحدة في هذا الصدد؟ وأين المبادئ الدولية الداعية لاحترام خصائص الشعوب وتقاليدها وقوانينها الوطنية، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية؟ قد يقول قائل إن حقوق الإنسان أصبحت قضية عالمية، وهذا صحيح جزئياً فالمبادئ العامة هي عالمية ليس اليوم بل منذ خلق الله الكون فالحق في الحياة، والحق في الأمن، والحق في الطعام والحق في العدالة هي من المبادئ المستقرة منذ نشأة الكون ولكن تنظيم الحقوق يخضع للقانون. أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فهي موضع خلاف قانوني هل هي حقوق بالمعنى الصحيح لمفهوم الحق أم إنها حقوق ذات طبيعة خاصة ترتبط بإمكانيات كل مجتمع وبفلسفته؟ أم إنها مجرد حريات وليست حقوقاً بمعنى حرية العمل وحرية تكوين النقابات وحرية التظاهر وحرية تكوين أسرة وحرية الزواج...إلخ. إنها ليست حقوقاً وفقاً للنظرية الليبرالية التي تعتمدها الدول الغربية، بينما هي تعد حقوقاً في النظرية الاشتراكية التي كانت تضمن العمل والرعاية الصحية والتعليم أما الدول الغربية فترى أن ذلك حريات ترتبط بحرية التملك الخاص في الصحة والتعليم وبقدرات كل فرد وظروفه الاجتماعية والاقتصادية.المشكلة أن بعض من يطلقون على أنفسهم لقب المناضلين أو الناشطين في مجال حقوق الإنسان لا يفهمون التفرقة بين هذه الحريات، وبين الحقوق. الأولى وهي الحريات فإنها ترتبط بوضع الفرد في المجتمع وبظروف المجتمع أما الثانية أي الحقوق فهي ترتبط بالفرد من حيث كونه إنساناً، فالحق في الحياة يبدأ من تاريخ الميلاد وحتى الوفاة، والحق في الأمن كذلك، والحق في العدالة وهكذا، أما حرية العمل أو ما يسمى أحياناً بالحق في العمل، فهو يرتبط بمدى توافر الوظيفة في القطاع العام أو الخاص ومدى ملائمة مؤهلات الشخص للوظيفة المتاحة وقبوله لها، ومدى انضباطه واحترامه لقواعد العمل، ونظمه ولوائحه، وكذلك الحق في التعليم أو الرعاية الصحية وخلافه. يكفي أن نشير إلى أن قانون التأمين الصحي مازال موضع خلاف حتى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي أكبر دولة ديمقراطية في العالم الغربي، والصراع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول مدى ما توفره الدولة من أموال للرعاية الصحية وهكذا من الضروري أن ينظر للقضايا في إطارها وظروفها وليس على إطلاقها، ولكن بعض المنظمات الحقوقية الأجنبية العاملة في إطار أجندة الفوضى الخلاقة وتخريب الدول تقنع نظيراتها في بلادنا بخلاف ذلك وهذا يرتبط بالأجندة السياسية وليس بالأجندة الحقوقية. إننا نلمس أنه كلما زاد هجوم بعض تلك الجمعيات الحقوقية المنتمية للدول النامية والتي تشكل المجتمع المدني والناشطين ضد بلادها، زاد احتضان الدول الأجنبية لها وحمايتهم وزاد حجم تمويلها من الخارج، إن جمعيات المجتمع المدني في الولايات المتحدة وأوروبا لا تسمح أنظمتها بتمويل أجنبي لها، وتخضع أموالها تحصيلاً وإنفاقاً لقواعد محاسبية شديدة ونحن لا نطالب في بلادنا بغير ذلك من الأنظمة المعمول بها في البلاد المتقدمة. وللحديث بقية.* باحث في قضايا حقوق الإنسان