ارتأيت في مقالي السابق «العنف السياسي والمجون الانقلابي» ألاَّ أقدّم رسالتي فوق السطور؛ وإنما بينها، غير أن هذا النوع من الرسائل لا يبدو أنه يصل كثيراً، أو ربما أصبح من الصعب نسبياً تلقيه كما يجب. لهذا آثرت أن أقدم ما كنت ذاهبة إليه ما بين التصريح والتلميح في هذه المرة، مع الاحتفاظ بالتضمين السابق للسطور لمتذوقيه وقرّائه، وللذكاء النوعي للقارئ.وتأكيداً لما جاء في المقال السابق؛ فإن الإرهاب طال البلاد والعباد لسنوات ثلاث متتالية، حتى جاء تفجير الرفاع بمثابة بيضة القبّان التي حطمت رقم الإرهاب القياسي، في ميزان مائل منذ بدايته؛ فوتيرة الإرهاب لم تنخفض يوماً، والشعب أنهكته المطالبة بتطبيق القانون بعد أن بُحّت الأصوات وجفّت الأقلام.يقول جمال الدين الأفغاني: «إن متعة استرداد الحق لا تضارعها الهيبة والتهيب»، كما يقول: «إن أمة توحدت لتعزيز الحق ساعة، خير لها من الحياة في الذل إلى قيام الساعة». لذلك فإن تفجير الرفاع وحده كان العلامة الكبرى لقيام ساعة الإرهاب ومحاكمته في البحرين، بعد علامات صغرى قدمتُها في مقالي السابق؛ أهمها تصحيح صورة البحرين في الخارج؛ الخارج الذي لا يستجيب دائماً، وربما لا ينصاع إلى الحق بقدر ما يستلهم خطاه من وحي أهدافه الاستراتيجية، ويستنير بأجنداته.ما تمخضت عنه انعقاد جلسة المجلس الوطني من توصيات، مثّلت إرادة شعبية كامنة في الضمير البحريني المخلص إبّان فوران البركان الإرهابي، منذ إعلان حالة السلامة الوطنية في 2011 حتى اللحظة، وربما قبل ذلك. منذ متى ونحن نسمع ونشاهد مظاهر الإرهاب في البحرين؟ منذ متى تصلنا أخبار خلايا إرهابية وحيازة أسلحة وتصنيع ملتوفات وغيرها؟ منذ متى ونحن نتعرض للإرهاب في الشوارع وفي البيوت الآمنة؟ غير أنّ الإرادة اجتمعت تواً؛ أتت متأخرة.!! ولا ندري إن كان النواب في حالة سبات ما قبل انتهاء الدور التشريعي، أم أن محركات أخرى دفعت المجلس الوطني بشقيه وتحت غطاء «الشعب لم يعد يحتمل المزيد» لإيقاظ إرادة نعست بعد عويل دام ثلاث سنين على ما آلت إليه أحوال المملكة ومن عليها.!!من الجيد أن حانت ساعة الولادة أخيراً، وانفرجت من رحم أزماتنا المتعاقبة راية أظلّت بظلّها قلوب اصطلت بوهج الإرهاب ونار خطيئته في المملكة. غير أن تلك الراية جاءت بأمان منقوع بخيبة الأمل؛ خيبة الأمل على قيمة المواطن البحريني وأهميته.!!تمنى المواطن البحريني يوماً، لو أن تفجير الرفاع أتى في مقدمة الإرهاب، حيث كان سيوفر على الشعب كثيراً من العناء، ويُجنب البحرين كثيراً من الخسائر التي قدمتها على طبق من ذهب مغطى بالحرير ومرصع بالياقوت والزبرجد من غير ضرورة لذلك. ولكن ما عسانا نقول؟:بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرامغير أن البلاد تجير ولا تجور، وكرام الأهل لن يكونوا قط جرحاً نازفاً لأبنائهم إن كانوا كراماً.!!يفترش علمُ المملكة أرضَ البحرين ويغطيها، لوّن تلك الأرض زهورٌ حمراء من حدائق قلوب مواطنيها المخلصين، وروت الرقعة البيضاء من علمها دماء الشهداء، حتى تلحفت البحرين بردائها الأحمر الوهّاج. وبهذا فالبحرين كلّها، كلّ شبرٍ فيها، كل ذرة رمل، وقطرة ماء، كلها خط أحمر؛ فالمحرق خط أحمر، البديع خط أحمر، مدينة عيسى خط أحمر، مدينة حمد خط أحمر، وكذلك سترة والدراز وبني جمرة والمنامة، كلها خط أحمر سواسية مع الرفاع، لا تزيد عنها ولا تنقصها في شيء. والبحريني واحد على اختلاف الطبقات الاجتماعية، دمه أحمر، وعلمه أحمر، وحرمته واحدة؛ بلا تفرقة أو عنصرية، وهذا ما اقتضاه الدستور (= المساواة).تضمر شرائح لا يستهان بها من المجتمع، ذلك الغضب المكبوت، غير أنها تظل صامتة مثل كل مرّة، وحسبما جرت عليه العادة؛ ربما لأن أكثرها لا يجرؤ على الكلام حتى اللحظة، رغم خروج الناس الوقتي من قمقمهم لحظة النُصرة، وربما لأن الكلام لا يُجدي نفعاً ما لم يجد أذناً تسمعه.!!أعلم يقيناً.. أنه ليس وقت المحاسبة على ما مضى، وأمامنا رصد ما هو آتٍ، متطلعين لتحقيق تلك التوصيات؛ علّها تكون نهاية مطاف الإرهاب في البحرين هذه المرّة. من غير المجدي الإسهاب في مقال كهذا نأياً عن التسبب في ضمور الهمة الشعبية، ولكن من الواجب على قلم حر عدم الإيجاز كذلك لدرجة الاستخفاف بالأمر، من الواجب رفض الإرهاب وما يرتبط به من علائق أيديولوجية في كافة الطبقات الاجتماعية البحرينية وعلى مختلف الشرائح، وإنما هي دعوة خالصة لاجتثاثه كلّياً بنسبة 100%، أو على أقل تقدير، تطهير البلاد من الإرهاب بنسبة ما تقدمه المطهرات الفعّالة 99.9%، كفى البحرين موجات عنف إرهابية. الشعب يحتاج الأمان ويحتاج العيش الكريم الموعود به؛ فهما ترياق الحياة.. والأمل بالله ثم بقادة البلاد وحكومتها.قد يُغضب مقالي البعض، ويثلج صدر البعض، وقد كتبته لا من أجل الثناء والتصفيق، ولا من أجل التعرض للشتم والتسقيط؛ وإنما لتأدية واجبي بحمل أمانة القلم، وإرضاء ضميري. لن أنتظر من أحد بعد هذا المقال صك مواطنة، فجوازي البحريني الذي أستحقه يكفيني فخراً وعزّاً. قد يُخوّنني البعض عندما عجز الكثير عن إدانة الخونة الحقيقيين، غير أن هذا لا يهم؛ فالمواطنة كما قيل: تنبع من الشعور بالكرامة والعزة والأمن والسلام النفسي والاجتماعي والاقتصادي بالعيش على هذه الأرض دون سواها، والحمد لله. وإننا لا نأمل إلاَّ لترسيخ مبادئ وعناصر المواطنة يوماً بعد يوم. أنا لا أمثّل الشعب بمقالي، ولا أدّعي أني صوته؛ فصوته المخنوق وُضع في «النوّاب»، وهذا شأن الشعب ونوّابه في المجلس البرلماني. أنا أمثل هنا رأيي الشخصي، وأعكس ما استطعت مما أراه في شعب يتحرق ليل نهار وهو صامت. فمن اتفق معي فليقُل: «أحسنتِ»، ومن لم يتفق فله حق الصمت المعهود، وحق أن يدلو بدلوه بما شاء.- نبض المنام..شاء لي الله أن أرتعد وأقلق كل لحظة على الناس في الشارع وفي بيوتهم، وأن أراقب آخر ساعة دخول على برنامج «واتس أب» لكل رجل أمن أعرفه؛ لأطمئن أنه ما زال على قيد الحياة وأنه بخير، بعد كل عملية إرهابية ترد إلينا أخبارها. كما شاء لي الله أن أنام على صوت أسطوانات الغاز المتفجرة كل ليلة، وأن تتصدع جدران بيتي من هزّات أرضية طفيفة بفعل التفجيرات المتكررة. فقومي يا قيامة الإرهاب.