الساعة الثانية والنصف ظهراً، الشهر الماضي، أي درجة الحرارة لا تقل عن 45 درجة مئوية وأنا في طريق عودتي من عملي، ما وجدت أفضل من جهاز الراديو في السيارة لكي يؤنس وقوفي في زحمة لا يعرف لها مثيل. مع أنني لا أنجذب إلى برامج «ما يطلبه المستمعون»، والتي تسمح للمتصل أن يرسل باقة من السلامات، التحيات أو العتاب لشخص ما يقطن معه في نفس الديرة، لدرجة تشعر بأننا خارج عصر التكنولوجيا، ومازالت الشعوب تستخدم الحمام الزاجل لكي تتواصل. ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفاً، فالمتصل عزف عن إرسال التحيات كما هو معتاد واستأذن المذيع أن يرسل نداءً، كنت أعتقد أن النداء سيكون دعوة لتشجيع المستمعين لإرسال تبرعات إلى إحدى الدول المنكوبة؛ بل كان الأمر مختلفاً، فقد أراد أن يوجه رسالة لمن لديه «خدم» ألا يعمدوا إلى إلزامهم بلبس «اليونيفورم» الخاص بالعمل وهم في زيارات خارجية وأن يرحموهم ولا يسمحوا لأبنائهم وأطفالهم بأن يعاملوهم بطريقة مزرية. سمعت كلام المتصل وأنا أقول في نفسي كم هو مبالغ هذا الشخص بكلامه ووصفه!! فنحن أمة عربية إسلامية في الألفية الثالثة، تعرف ما لها وما عليها، وأجمل ما يطوقنا هو شعار الرحمة والإنسانية، ولكن حقيقة بعد مكالمته بدأت أمعن النظر بما حولي، لأصادف في نفس اليوم وأنا في عيادة الطبيب، أسرة تدخل العيادة ومعها «الخادمة» وهي ترتدي الزي الخاص بالتنظيف، انزعجت مما رأيت، ليس بسبب لباسها فقط لكن من طريقة الأمر والنهي التي كانت تسلط على تلك الفتاة. ويكتمل معي المشهد في أحد المجمعات عندما رمى طفل لا يتجاوز عمره الثـ8 سنوات لعبته على الأرض وهو غاضب، ومن ثم أمر الخادمة بكل عنجهية أن تلمها والأم تراقب الموقف وترسم على محياها ابتسامة فرح من تصرف ابنها.. وغيرها الكثير من المواقف التي صارت تشغل انتباهي، أدقق بها وتثير اشمئزازي.لهذا لم يكن بمقدوري أن أخفي إعجابي بما شاهدته الأسبوع الماضي، لفيلم شبابي بكل المقاييس، بحريني الهوية، بعنوان «النقطة العمياء» The Blind Spot، بالرغم من قصر مدته الزمنية التي لا تزيد عن 10 دقائق وصمت ممثليه؛ إلا أن الرؤية كانت واضحة والفكرة بسيطة ومعبرة ذات معنى كبير تتلخص في إلقاء الضوء على أهمية وجود المهن الصغيرة في حياتنا، والتي لا نفكر في أن نعيرها أي اهتمام سواء لها أو لمن يقوم بها بداية من خدم المنازل والمكاتب وعامل النظافة في الشارع، حارس الأمن، النادل في المطعم وغيرهم الكثير.. وكيف أن وجودهم له الأثر البالغ في تأمين راحتنا النفسية. ولنعطِ أنفسنا فرصة ونتخيل حياتنا من دونهم؟! وبالرغم من أن هذا الفيلم الصغير استطاع أن يزفر دمعة من عيني بيد أنه ارتسمت على وجهي ابتسامة تفاؤل أن يكون هذا النمط الفكري الجديد لشبابنا الواعد وأن يتمكن من لفت انتباه من ليس له نظر في أن يعيد النظر بكل ما يجري حوله سواء كان تافهاً أو مهماً من وجهة نظره.ولاشك بأنه يوجد من الأمثلة الكثيرة التي تثير فيني القرف فأنا لا أقول بأن هؤلاء الخدم هم ملاك وإنما من الجميل أن نتحلى نحن جميعاً بالإنسانية الحقيقية... وصدق الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه عندما قال: «ما أَحسنَ توَاضع الْأغنياءِ للفقرَاءِ طلباً لما عندَ اللهِ! وأحسنُ منهُ تيهُ الفقرَاءِ على الأغنياءِ اتكالاً على الله».