يتفق الكثيرون مع الدفوعات والتبريرات التي رافقت قرار المحكمة بحل المجلس العلمائي المتعلقة بالحفاظ على هوية البحرين وخروج أداء المجلس العلمائي عن القانون. فالبحرين بلد قام منذ قدم التاريخ على التعددية والتثاقف والتعايش بين مختلف مكوناته ومع مختلف الطوافين عليه من تجار ورحالة، وأي كيان سياسي أو شعبي يتأسس ويحاول تجيير هوية البحرين في إطار واحد فهو يضرب ثوابت التعايش ويهدد تطور مفهوم الدولة المدنية ومقوماتها التي تسعى المطالبات (الصادقة) للإصلاح بتحقيقها.مشكلة المجلس العلمائي الذي تأسس سنة 2004م خــارج أي إطــار قانونـــي تتلخص في عدة نقاط. منها أنه يسعى إلى تجذير «الخصوصية المذهبية» لدى شيعة البحرين. وعلى الرغم من أن الحفاظ على الخصوصية الإيديولوجية أمر طبيعي في التكوينات الدينية، إلا أن جزءاً كبيراً من وظائف تلك التكوينات يقوم على عمليات التقارب والأقلمة والبحث عن مسالك التعايش والتسامح كي تخرج بالخصوصية من ضيق الإيديولوجيا إلى سعة المواطنة. وهذا ما افتقده المجلس العلمائي منذ تأسيسه حتى البيان الذي صـــدر بعـد قرار المحكمة بحله، فمواقــف العلمائي وبياناته، خصوصاً في مناسبات عاشوراء وبعض الأحداث السياسية، تنطلـــق من الخصوصيـــة المذهبيـــة والعزف على وتر المظلومية الشيعية وتضخيم حالات الاستهداف المذهبي بهدم المساجد والقبض على المتورطيـن والإساءة إلى العلماء. وبيانات العلمائي في أغلب تلك القضايا كانت تتجاوز الشق القانوني والإجرائي إلى إدخال مشكلات البحرين في حالات إسقاط الحاضر في الموروث الشيعي التاريخي.المشكلة الثانية هي تفسير طبيعة المجلس العلمائي، فالعلماء المنضوون تحت مظلته ينتمون إلى التيار الشيعي (الولائي) الذي يدين بولاية الخامنئي على الشيعة في أي بقعة كانت. ومسألة ولاية الفقيه من المسائل التي مازالت سبب أزمات كثيرة تخص مفهوم المواطنة وولاء المواطنين للشيعة، وهي أزمة لا تتفجر مع المواطنين السنة فقط، بل حتى مع التيارات الشيعية غير الولائية. وقد برزت هذه المشكلة جلياً في مناقشة قانون الأحــوال الأسرية حيث رفض المجلــس العلمائي، استناداً إلى بيانه الصادر عام 2005م، إقراره إلا بموافقة المرجع الأعلى للشيعة، وهو السيد الخامنئي القابع في إيران، وضمان عدم تعديله من قبل وزارة العدل، الأمر الذي عطل صدور الشق الشيعي من قانون الأحوال الشخصية في البحرين لحد الآن على الرغم من صدور الشق السني منه. من جهة ثانية، فإن اختصاصات المجلس العلمائي غير واضحة وغير محددة. فهو تكوين ديني علمي يرعى الحوزات والشؤون الدينية، إلا أن تدخله في الشأن السياسي وفي توجيه بعض القضايا السياسية مثل الانتخابات والتعليق على الأحداث السياسية ورفض تطبيق بعض القوانين الصادرة من الدولة مثل كادر المؤذنين والأئمة هو الأبرز في ممارساته والأكثر تأثيراً على الساحة. وهو بذلك يُلبس أمور الدنيا (بالمقدس) فيضفي عليها صبغة القطع، في حين أن أغلبها اجتهادات بشرية ووجهات نظر قابلة للنقاش والجدل والتعديل، وهو ما يرفضه العلمائي تجاه أي من قراراته وأحكامه.أخطر المشكلات التي يرسخ لها استمرار العلمائي هي رفضه ورفض مريديه لعملية ترخيصه وتقنين نشاطاته. وقد جاء ذلك في العديد من التصريحات تجاه المطالبات الحثيثة بتقنين وضع المجلس العلمائي حيث كانت الردود تدور حول أن المجلس مختص بأمور الدين ولا يجوز أخذ إذن من الدولة في الشؤون الدينية. وهذا مؤشر على أن ثمة من يرى نفسه فوق القانون وفوق الدولة، ويرى في سلوكه الحصانة التي تحول دون خضوعه للإجراءات الرقابية والمحاسباتية التي هي أحد أهم مؤشرات الدولة المدنية، وسلامة البناء التشريعي لها وقيامها على فرض هيبة القانون على كافة مكونات الدولة. حـل المجلس العلمائي كان امتحاناً صادقاً وثابتاً للذين خرجوا علينا (ثواراً) في 14 فبراير يطالبون بالديمقراطية والعدالة والمساواة. ولقد كان امتحانهم الأول في تجريم إرهاب الشوارع واستخدام الحوارق والخوارق التي تقتل رجال الأمن واحتجاجهم على تطبيق القانون ضد هؤلاء وقد سقطوا فيه سقوطاً مريعاً. والامتحان الثاني كان في صدق الدعاوى (المدنية) والديمقراطية في الشعارات التي ما لبثوا يرفعونها منذ تسعينات القرن الماضي ولكنهم كانوا يذكون الشعارات المذهبية والخطابات العنصرية والسلوك الإقصائي، وهم اليوم يرفضون تقنين المجلس العلمائي وتحديد اختصاصاته وضبطها. فإلى أي ديمقراطية يسعى هؤلاء؟ وأي إصلاح ينادون به؟ وأي دولة مدنية يضللون العالم بالمطالبة بها؟