نمتلئ بالأسئلة حين نرى مذيعات يلبسن وبإصرار غريب الأزرق أو الأبيض أو الأسود فقط، ليظهرن كقطعة من الديكور المحيط بهن في قناة تلفزيونية لا يستطيع لفظ اسمها 50% من مشاهديها. العناد القومي الفرنسي نفسه كان ذا جرعة أقوى حين تلبس نابليون الثالث وهو يصدر الأمر لقواته لاحتلال المكسيك في 8 ديسمبر 1861م. فحين يكون للأطماع آفاق مفتوحة لا يعود للإجابة عن الدوافع أهمية. هرولة فرنسا لإقامة إمبراطورية في المكسيك تحت رعايتها جعلت بريطانيا وإسبانيــا تتراجعان عن دعم الفكرة، مما أدى لهلاك الكثير من الفرنسيين، ليس بسبب المقاومة، لكن بسبب الطقس والحمى الصفراء والدوسنتاريا والتيفوئيد. ولتجاوز وديان الأمراض المكسيكية الحارة اقترح أحدهم على نابليون جلب دعم عسكري من حليف أفريقي بيئة بلاده حارة. اختار نابليون طلب العون من حاكم مصر محمد سعيد باشا ذو النزعة الغربية. ولميوله الفرنسية لبى سعيد الدعوة وأمد صديقه بكتيبة ضمت 447 رجلاً. وقد مات 47 رجلاً حين وصلت الكتيبة المكونة من جنود من السودان وصعيد مصر بقيادة المقدم جبرة الله محمد السوداني إلى ميناء فيراكـــروز «Veracruz» نهاية 1862م. لكــن الكتيبة المصرية لم تعد إلا بعد أن حفرت اسمها في التاريخ العسكري الفرنسي، رغم هرولة الفرنسيين أنفسهم بانسحاب مرتبك وترك الجنود السودانيين والصعايدة لمقاتلة رجال سواريز «Benito Juarez's». وقبل اقتفاء أثر كتيبة النخبة السوداء «A Black Corps d'Elite» كما سميت في كل المصادر، لفت نظرنا الهرولة الفرنسية في دخول المكسيك والخروج منه، وقد تكون الرواية آنذاك غير دقيقة إلا أنها تثبت صلاحية وصم فرنسا بالعناد القومي والتفرد والحسابات العجولة. ففي متابعتي لنشرة أخبار على قناة France 24 التي لا أجيد نطق اسمها رغم أنني كنت ضيفاً عليهم قبل عامين لاحظت الحوار التالي:- طهران تتهم باريس بقلة الواقعية وقلة المرونة لتشددها أكثر من واشنطن في ملفات النووي والسوري.- باريس تقر بمواقف متباعدة مع طهران لأنها لا تقدم مؤشرات ثقة.وفجأة تراجع نهج خلخالي العنيف وتقدم غزل الشاعر الإيراني سهراب سبهري الذي جاء في أبياته «نظرة لشوارع طهران ستظهر حجم العلاقات الاقتصادية مع فرنسا، فإيران أكبر سوق للسيارات الفرنسية في العالم، ومكان توتال النفطية لا يزال خالياً في قلب إيران»، ثم ألقى العاشق الإيراني بوردة كان من أثرها هرولة مشينة لا تليق بالحسناء الباريسية؛ مما دفع وزير الخارجية الامريكي في 6 فبراير2014م للقول إن فرنسا ستواجه عقوبات إذا أبرمت صفقات تجارية مع إيران. وكان أن ردت فرنسا اللعوب في 8 فبراير واصفة زيارة وفدها التجاري إلى إيران بالمهمة الاستكشافية فقط.لو عدنا للمكسيك في 1862م لوجدنا الكتيبة المصرية تقاتل مع رجال الجنرال بيزيان «Bazaine» حتى تم احتلال مدينة مكسيكو، فوصف بيزيان رجال الفرقة «أن هؤلاء ليسوا من الجنود، بل هم أسود»، لكن الكتيبة تعرضت لكمين كارثي في مارس 1865م وفقدت فيه العديد مع رجالها رحمهم الله، ومنهم قائدهم المقدم جبرة الله. استمرت الحرب وتم تنصيب مكسيمليان النمساوي إمبراطوراً على المكسيك، ولأن وجود القوى الأوروبية في الأمريكيتين يخالف «مبدأ مونرو» الداعي لإخراجهم، تدخل الأمريكان الذين كانت تشغلهم من قبل حربهم الأهلية فانتصرت المكسيك، وأعدم مكسيمليان 1867م، وانسحب الفرنسيون. لكن الكتيبة المصرية بقيادة الرائد محمد ألماظ أفندي التي لم يبق من رجالها إلا 321 بقيت تكافح للخروج ومعهم بعض الجزائريين. وحين عادت الكتيبة لفرنسا في مايو 1867م استعرضها نابليون مع قائد الجيش المصري شاهين باشا وهنأ ألماظ أفندي على شجاعة الكتيبة ووزع عليهم الأوسمة، كما استعرضها الخديوي إسماعيل بالإسكندرية.بين مرارة الاعتماد على التحالف مع واشنطن التي تتبع أجندة مصلحية تفتقد القيم الأخ?قية التي تضبط السلوك الإنساني وبين مرارة إبدالهم بتحالف مع باريس التي يحكمها العناد القومي والحسابات العجولة، نجد أن خياراتنا قليلة. فقد تمتطي أهداف إحداهما الإستراتيجية أهدافنا الاستراتيجية لتحقيق مغامرة قد نجد أنفسنا جراءها أسرى لطهران أو تائهين في المكسيك مرة أخرى!