عقد مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة (دراسات) المؤتمر الاستراتيجي الخليجي يومي 29-30 أكتوبر 2013، وكانت مداولاته مكثفة، حيث حضره شخصيات سياسية وأكاديمية رفيعة المستوى. ونسوق فيما يلي بعض الملاحظات التي تمثل قراءة سريعة لأهم ما تناوله المؤتمر. الأولى: تتعلق بجدول أعمال المؤتمر والذي تناول محاور التحديات التي تواجه الشرق الأوسط والنظام الإقليمي العربي، والتي تواجه مجلس التعاون لدول الخليج العربية والمتطلبات الضرورية للديمقراطية المستقرة في أيه بقعة من العالم. لقد كانت هذه الجلسة من أهم جلسات المؤتمر لأنها حشدت نخبة متميزة للتحدث فيها وفي مقدمتهم الدكتور نبيل العربي أمين عام جامعة الدول العربية، والدكتور عبد اللطيف الزياني أمين عام مجلس التعاون، والسيد دومينيك دو فيلبان وهو سفير مخضرم تولى وزارتي الخارجية والداخلية ورئاسة الوزراء الفرنسية، والسيد بيرقدار وهو اقتصادي متخصص في مجال البنوك رئيس مجلس الإدارة والمدير التنفيذي لانفستكورب، فضلاً عن الكلمة الافتتاحية للدكتور محمد عبدالغفار، التي وضعت محاور المؤتمر وأهدافه. نقول إن هذه الجلسة بهذا المستوى كانت متميزة من حيث الموضوعات والمتحدثين، وقد كانت مداخلة الدكتور عبداللطيف الزياني بمثابة كشف حساب واقعي وموضوعي لإنجازات مجلس التعاون، وهي ترد بطريقة عملية على من ينتقدون المجلس وأعماله ويتهمونه بعدم الإنجاز، في حين كان الجزء الأخير من مداخلة الدكتور نبيل العربي متضمناً الدفاع عن اتهام الجامعة العربية بالقصور في مواجهة الأزمة السورية، وذلك بعد أن عرض باستفاضة لنصوص ميثاق الأمم المتحدة وخاصة دور مجلس الأمن وما فيه من ممارسات للفيتو، وتناولت مداخلة دوفيلبان استعراضاً لما حدث في دول الربيع العربي وما وواجهه من تحديات ومنها تراجع الأداء الاقتصادي وانعدام الأمن، ووصف أحداث 3 يوليو 2013 في مصر بأنها انقلاب عسكري. أما مداخلة السيد بيرقدار فكانت مختصرة ومركزة على مفهوم الطبقة الوسطى ودورها في بناء الديمقراطية وتحقيق التنمية، وهذا مفهوم علمي ارتبط بنشأة الديمقراطية في أوروبا منذ الثورة الصناعية، وإن كانت أوروبا وأمريكا يتناسون ذلك الآن، ويطالبون بالديمقراطية العاجلة الفورية، دون اعتبار لمراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي للدول النامية، وبخاصة دول مجلس التعاون. وقد كان الدكتور بيرقدار متميزاً في أسلوبه في عرض أفكاره. برز في المداولات أمران مهمان؛ أولهما طول معظم الكلمات، فقد كان البعض يتحدث وكأنه الوحيد في الجلسة أو كأنه يحاضر في جامعة للطلاب، فيدخل في التفاصيل الدقيقة المفترض أنها معروفة للحاضرين المدعوين، وهم جميعاً من الخبراء. وثانيهما بعض الآراء السياسية القديمة لبعض المتحدثين ونموذجها ما ذكره دوفيلبان حول الخليج أو وصف أحداث مصر في 30 يونيو بأنه انقلاب، وهذا يدل على أنه لم يدرس الوضع المصري بدقة، فإذا أخذنا بمنطقه فإن ما قام به الجنرال ديجول في فرنسا عام 1958 يعد انقلاباً عسكرياً، وأن ما قام به الجيش المصري في عام 1952 يعد انقلاباً عسكرياً، وقد كان كذلك في البداية ثم تحول لثورة لما أحدثه من تغيير جذري في مصر والوطن العربي، كذلك ما قام به الجيش المصري من إجبار الرئيس مبارك على التنحي عن السلطة يعد كذلك، من ثم نقول إن مفهوم دوفيلبان للانقلاب هو مفهوم تقليدي لا يعبر عن الفهم الحديث في النظم السياسية التي تحدد متى وكيف يحدث تدخل القوات المسلحة، خاصة في حالة الأزمات الداخلية المستعصية، وبالذات في الدول النامية وعلى وجه الخصوص الدور التاريخي للقوات المسلحة المصرية منذ ثورة عرابي، والتي يعدها المؤرخون أول ثورة وطنية في تاريخ مصر الحديث. الثانية: تركزت الجلسة الثانية على الوضع في الخليج العربي والدورين الإيراني والأمريكي ودور قوة درع الجزيرة وضرورة بناء نظام أمن إقليمي جديد؛ وكان المتحدثون أيضاً نخبة من الخبراء أمثال البروفسور الأمريكي أنطوني كورد سمان رئيس برنامج بيرك للدراسات الاستراتيجية، والدكتور محمد الرميحي من جامعة الكويت، والسيد زاهد جول صحافي وكاتب تركي، والدكتور ميشيل بيلفر من جامعة متروبوليتان في براج جمهورية تشيكيا. وترأس الاجتماع الدكتور جميل معوض رئيس جمهورية الإكوادور السابق. هذه الجلسة أيضاً كانت مهمة من حيث الموضوع والمشاركين، لكنها من جانب آخر يمكن أن نشير لبعض الملاحظات الفرعية المتصلة بها، أولها أن البروفسور كورد سمان وهو خبير استراتيجي أمريكي، وقدم رؤيته، ولكنه كعادة كثير من الشخصيات الأمريكية يعرف المواقف الأمريكية ويسعى لفلسفتها، وتقديم رؤية تبدو علمية، بما يعبر عن مصالح بلاده، وهذا ليس عيباً كبيراً بالنسبة للأمريكيين والغربيين الذين يحرصون بوجه عام، حتى لو كانوا ضد الحزب الحاكم، لا يعارضونه خارج بلادهم، وهذا على خلاف المثقفين والأكاديميين في معظم الدول العربية الذين يتنافسون على نقد أنظمة الحكم في بلادهم، ويتباهون أحياناً بذلك أمام الأجانب، وهنا نجد المفارقة فيما يتعلق بمفهوم الالتزام الوطني لدى المثقف، ولذلك لاحظنا أنه رغم كل مآخذ الإعلاميين والسياسيين والأكاديميين في الدول العربية على السياسة الأمريكية في المنطقة، فإن البروفسور كورد سمان كان معبراً عن نفس السياسة، ومبرراً للانفتاح الأمريكي على إيران، والدور الإيراني بما يتماشى مع التطور الجديد في السياسة الأمريكية، بل الأغرب أنه وجه اللوم للدول العربية والخليجية بأنهم يعيشون في مفهوم المؤامرة ونظرياتها، وكأن السياسة الأمريكية بريئة من العيوب.ونفس الموقف أخذه الباحث التركي زاهد جول مع نوع من الاعتدال المحدود، حيث حاول إظهار حياديته بالإشارة إلى أن الأخطاء في الجانبين العربي والتركي، ولكنه كان أكثر نقداً للموقف العربي الذي ينتقد الانحياز التركي للإخوان المسلمين، بل حاول إنكار الحقائق المعروفة عن عقد اجتماعات الاتحاد الدولي للإخوان في تركيا، وكذلك أنكر وجود تصريحات أردوجان ضد النظام الجديد في مصر، رغم أن ذلك منشور في كافة أجهزة الإعلام فقد ادعى عدم دقة وصحة ما نسبته الصحف لرئيس الوزراء. الدكتور محمد الرميحي الأكاديمي الكويتي كان من أكثر المتحدثين عقلانية وموضوعية فقد أبرز التحديات التي تواجه المنطقة وأهمية الاعتماد على النفس والتماسك الخليجي لمواجهة تلك التحديات، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المثقف الخليجي الصادق والمحب لبلاده. الثالثة: كانت الجلسة الثالثة بعنوان «تحديات استراتيجية معاصرة» وتحدثت فيها مجموعة من الخبراء؛ الدكتورة ربيكا جونسون من معهد أكرونيم لدبلوماسية نزع السلاح من بريطانيا، والدكتور محمود كارم السفير المصري السابق والخبير في قضايا نزع السلاح، والدكتور خالد الرويحي المدير التنفيذي لمركز «دراسات» المنظم للمؤتمر. وترأس الاجتماع ميجيل موراتينوس وزير خارجية إسبانيا الأسبق. وقد عرض الخبراء تفاصيل ما يتعلق بهذه القضية سواء بالنسبة لجهود المركز البريطاني في مجال نزع السلاح، أو بالنسبة لمعاهدة منع الانتشار النووي أو للفضاء الإلكتروني وآلياته ومخاطره. ووجه الخبيران البريطاني والمصري النقد لإسرائيل والى حد ما الولايات المتحدة لعدم انعقاد المؤتمر الدولي لبحث جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية، أما الدكتور خالد الرويحي فقد عرض لتطور الحروب المستقبلية وتحولها إلى حروب إلكترونية بخلاف ما كان يحدث في الماضي.الجلسة الأخيرة تولى رئاستها وزير الخارجية المغربي الأسبق السيد محمد بن عيسى، وكان المتحدثون فيها الدكتور علي الدين هلال الوزير السابق وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الذي قدم مداخلة متميزة حول مفهوم الدولة المدنية، ومفهوم الدولة الدينية، موضحاً التعارض الكامل بين المفهومين، ومؤكداً أن أي ترديد لدعاة الإسلام السياسي بأنهم يسعون لنظام حكم مدني أو ديمقراطي، فانه ليس سوى تلاعب بالمفاهيم، ولا يعبر عن الشفافية والمصداقية، لان الدولة المدنية تقوم على ركائز ثلاثة هي الإقليم المحدد، والشعب كمرجعية نهائية، والحريات العامة والمواطنة المتساوية. وهذه الركائز تتعارض مع المفاهيم الدينية بوجه عام، ومع مفاهيم الإسلام السياسي بوجه خاص، لأنه يرفض الاعتراف بالدولة وإقليمها وممارستها لسيادتها على إقليمها استناداً لمقولة الأرض لله، ويرفض الشعب كمرجعية نهائية ممثلا في البرلمان وتقوم الدولة على مرجعية دينية هي المرشد العام للجماعة في المذهب السني، وولاية الفقيه في المذهب الشيعي، وأن هؤلاء يفسرون تعليمات الله، ويرفض المواطنة المتساوية لأنه يجعل أصحاب مذهبهم هم الأساس، وغيرهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، وهذا واضح في الدستور الإيراني الذي يجعل دين الدولة المذهب الشيعي الإثنى عشري، ودستور الإخوان المسلمين في مصر عام 2012 الذي يجعل المرجعية في المادة 219 هي مذهب أهل السنة والجماعة، فكأن كل من الدستورين يرفض مبدأ المواطنة المتساوية وينظر بعين الريبة والشك على أحسن الفروض للمذاهب والأديان الأخرى. ودعا الدكتور هلال بوضوح وصراحة لجعل الدولة المدنية الحديثة أساس النظام السياسي. الخامسة: تلك أبرز الملاحظات المتصلة بأعمال المؤتمر وأبرز متحدثيه. في الختام نقول لقد أحسن مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة اختيار عنوان المؤتمر، وهو ما يؤكد أن لدى المركز إمكانيات جيدة، وأنه أثبت قدراته ويمكنه تحقيق الكثير في المستقبل، وأنا دائماً من المؤمنين بشعب مملكة البحرين ومثقفيه وعلمائه أدعو دائماً للاستفادة من الكفاءات المتاحة في مملكة البحرين والحد من الاعتماد على الخارج.