لقد انتقل نيلسون مانديلا للرفيق الأعلى بعد حياة حافلة بالعطاء وتقديمه نموذجاً للإنسان المعبر عن ثلاثة من المبادئ السامية:الأول؛ النضال في سبيل الحق والمبدأ وتحرير شعبه في جنوب أفريقيا حتى حصل على حقوقه كاملة وتم سقوط النظام العنصري البغيض، لقد جاء مانديلا لهذه الدنيا ووطنه ضائع وشعبه مضطهد وتركها ووطنه مرفوع الرأس وشعبه يعيش التسامح والسلام والتقدم.الثاني؛ تقديم تجسيد للمبادئ والقيم الإنسانية النبيلة في الصفح عند المقدرة وفي الدعوة للتسامح وحقاً فإنه كان نموذجاً مثالياً وتعبيراً عن قول الله تعالى (فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) (سورة البقرة الآية 109) فقد صفح عمن اضطهدوه ووضعوه في السجن 27 عاماً، وخرج وقلبه صافياً خالياً من الغل والحقد ضد أعدائه، بل ودعا شعبه للتسامح معهم وأكد أن الوطن للجميع من السود والبيض وبذلك جنب شعبه من كافة الألوان والأعراق حرباً أهلية دامية وأنشأ لجنة الحقيقة والمصالحة التي أسند رئاستها للقس الجنوب أفريقي دزموند توتو واستطاعت اللجنة إعادة اللحمة الوطنية وتعزيز الوحدة الوطنية وكان منهجها العفو وأطلق شعاره «نتسامح ولكن لا ننسى» هذا الشعار الجميل اقتدت به الصين نسبياً ووضعته في متحف آثار العدوان الياباني في مدينة نانجينج.الثالث؛ الزهد في الدنيا ومغانمها ولذلك تولى السلطة مرة واحدة لمدة خمس في الفترة من سنة 1994-1999 ثم تخلى عنها ضارباً المثل والنموذج والقدرة بالنسبة لرجل السياسة الإنسان ورجل الدولة الحريص على مبدأ تداول السلطة وكان يمكنه أن يظل فيها طوال حياته، كما يفعل كثيرون في دول العالم الثالث.إن نيلسون مانديلا يعد نموذجاً مجسداً للمبادئ الإلهية في التعامل البشري وهي مبادئ لم يجسدها بحقها سوى الأنبياء والرسل أما معظم البشر العاديون مهما كانت سماتهم، فلم يصلوا إلى مستوى تجسيد مانديلا للقيم والمبادئ التي دعا إليها الله سبحانه وتعالى في مختلف الأديان. وحقاً قال الإمام محمد عبده إثر عودته من فرنسا عندما سئل عن تلك البلاد فقال «رأيت في فرنسا إسلاماً بلا مسلمين ورأيت في بلادنا مسلمين بلا إسلام».أين أنت يا مانديلا من أولئك المسلمين الذين هددوا ونفذوا تهديدهم بحرق أوطانهم وتدمير تراثه وتشريد شعبه، حباً في السلطة، وحرصاً عليها بأي ثمن. إن كثيراً من قادة الدول العربية والإسلامية للأسف قدموا النموذج العكسي سواء سعياً للسلطة أو حرصاً على الحفاظ عليها والتمسك بها، فهم بئس النموذج، في حين أنت نعم النموذج ،الذي ظل يخدم وطنه وشعبه بإيمان راسخ لا يلين، وهو في السجن ثم وهو في السلطة ثم عندما رغب عن السلطة وتخلى عنها طواعية حقاً هذا هو النموذج السليم الذي دعانا الله بحكمته لأن نقتدي به في التسامح والعفو عند المقدرة والزهد عن الدنيا والعمل بتفان والإيثار وحقاً إننا نجد بئس النموذج في بلادنا العربية والإسلامية حيث نكره الآخر ونظهر الأنانية ونعيث في الفساد ونتمسك بالسلطة طمعاً وشراهة، فلسنا بمسلمين حقاً، وإنما نحن مسلمون بالاسم دون المضمون وبعيداً عن الجوهر.أيها الإنسان الحق والنموذج الصادق نيلسون مانديلا إن نموذجكم استحق عند الموت أن يحتفي به شعبه، وأن يكون موضع اهتمام من قادة العالم، وأن معظم الذين لم يشاركوا في توديعكم هم أولئك الخائفون والمرجفون والطغاة البعيدون عن النموذج الديمقراطي والنموذج الإنساني السليم والذين يحقدون على نموذجكم لأنه يفضحهم ويكشف سوءاتهم كما كشف ابن آدم سوءة أخيه وقتله حقداً عليه. إنني أتذكر لقاءكم في الصين عندما زرتها رئيساً لدولتكم الفتية وكنت أنا ممثلاً لدولتي مصر الحبيبة صاحبة الحضارة العريقة وأقارن بين سلوككم وسلوك الطغاة من بلادنا العربية والإسلامية، وبخاصة من بلادي مصر وحكامها السابقين الذين لم يتخلوا عن السلطة إلا بإحدى الوسيلتين الموت قتلاً أو قضاءً، أو الإطاحة بهم بواسطة قوة قاهرة، وهم الذين أعلن بعض حكامها أنه سيحول أرضها إلى محروقة من أجل السلطة للأسف باسم الإسلام أو باسم السيادة الوطنية كما هو حادث في الشقيقة سوريا وغيرها.إنني أتذكر حديثكم معي بتواضع، وإشادتكم بمصر ودورها الأفريقي، وكذلك أتذكر إشادتكم بزميلتي الدكتورة مشيرة خطاب سفيرة مصر آنذاك لدى بلادكم، وتساءلت بعد ذلك في نفسي كم من رئيس دولة أو مسؤول كبير استقبلته في مواقع مختلفة وسلمت عليه أو بالأحرى صافحني بنوع من التعالي والغرور، ولم يبلغني رسالة تقدير للإنسان نتيجة عمله كتلك التي طلبت مني إبلاغها لقيادة مصر آنذاك عن سفيرتها في جنوب أفريقيا.إن نموذجكم أيها الماديبا هو نموذج الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً إن نموذجكم يذكرني بذلك المؤمن من آل فرعون الذي نصح حكومته الطاغية آنذاك مدافعاً عن الحق وداعياً للتسامح واحترام الروح الإنسانية وفقاً لمبادئ الله في أديانه المتعددة حيث قال عنه القران الكريم مكرراً مقولته الناصحة «أتقتلون رجلا يقول ربي الله» . (سورة غافر الآية 28)هنيئاً لكم يا ابن أفريقيا بل أنت ابن القيم الإنسانية والمثل العليا التي عبر عنها تاريخ البشرية جمعاء، ورسالات السماء كلها في أحسن صورها، وطبت في حياتكم كما في مماتكم، ولذلك أمطرت السماء في يوم وفاتكم تعبيراً عن رضاء الله عنكم، كما يتردد ذلك في التراث الشعبي الأفريقي بل تراث الكثير من الشعوب فالمطر يحمل الخير والنماء، وهو تعبير عن رضاء الله خاصة إذا كانت مطراً مفيداً ليسقي الزرع بل يسقي كافة مخلوقات الله سبحانه وتعالى من نبات وحيوان وإنسان وحقا قال الإمــــام الشافعي:قد مات قوم وماتت مكارمهم وعاش قوم وهم بين الناس أموات.فإن مكارمكم ونموذجكم سيظلان نبراساً للملايين من بني البشر على مر العصور.واختتم هذا المقال بالإعراب عن تصوري بأنه كان على مصر صاحبة العراقة والوفاء على مر العصور أن ترتفع بمستوى التواجد في وداع مانديلا خاصة أن مصر وجنوب أفريقيا هما شريكا نضال أفريقي مع إدراكي أن الوزير الأسبق محمد فائق رئيس المجلس المصري للشؤون الخارجية وهو صديق شخصي لمانديلا كان حاضراً وأنه حمل اسم مصر في هذه المناسبة أما صديقه الآخر الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة ربما منعه المرض من الحضور ولكنني كمواطن مصري أجد أن بعض قادة بلادي في هذه اللحظة كان عليهم أن يكونوا على مستوى عراقة تاريخ مصر ومواقفها الأفريقية رغم معرفتي بكثرة مشاغل المسؤولين المصريين حالياً وأيضاً بوجود حساسيات لدى بعض السياسيين المصريين من بعض مواقف جنوب أفريقيا وربما بعض مواقف مانديلا شخصياً في السنوات الأخيرة ورغم كل ذلك فقد كنت أتمنى ألا تترك هذه الحساسية أثرها على قرار إنساني وسياسي حكيم في هذه المناسبة الأفريقية والعالمية المهمة.
Opinion
وداعاً نيلسون مانديلا حكيم أفريقيا والعالم
17 ديسمبر 2013