أخذت على نفسي عهداً أن أسقط كل شعارات لا أرى لها تطبيقاً فعلياً على أرض الواقع، بالتالي أكاد أصل لمرحلة لا أصدق فيها أي شعار أو مقولة مهما كان مضمونها «أفلاطونياً» أو معناها غارقاً في المثالية.المجتمعات الغربية جعلت للنظريات التي تستمد منها الشعارات الرنانة مكاناً خاصاً بها، جعلتها في المدارس والجامعات، وقصرتها على عملية التعليم والتلقين، باعتبار أن النظريات -وهي خلاصة تجارب قادت لصياغة «معادلات» شبه ثابتة بناء على معطيات ونتائج- تحتاج أن تدرس شريطة أن يؤمن بها ويؤخذ بها ويتم تطبيقها. بالتالي حينما تهضم النظرية وتخرج منها الشعارات تأتي المرحلة الأهم وهي تحويلها إلى واقع عملي ملموس، المهم فيه أن يكون «قابلاً للقياس».أداة التقييم هنا، وأعني قولنا «قابلاً للقياس»، بحد ذاتها تحتاج شروحات طويلة ووقفات أطول، لكن لاختصارها نقول بأن كل شعار مستمد من نظرية أو حتى منبثق من تفتقات ذهنية إن لم يكن «قابلاً للقياس»، فهو شعار «وهمي» وكلام «هلامي» وخيالات غير واقعية.لكن في المجتمعات العربية جعلنا النظرية والشعارات هي أساس كل شيء، نريد أن نغير الواقع لكن بالكلام وعلى الورق، نريد مجتمعات أفضل، وممارسات أرقى، لكن يظل ذلك على الورق وفي الخيالات وحتى في الأحلام، إذ الواقع يكشف بأن ما يحصل فعلياً خلاف لذلك وبشكل رهيب.وعليه قررت ألا أصدق أي شعار حتى أراه يتطبق على أرض الواقع، وحتى أرى آلية قياسه، ونتائج قياسه، وهنا من يريد أن يلومني فله مطلق الحرية، لكن قبل أن يلقي باللائمة ويعتبر ما نقوله «تشاؤماً» أو «إحباطاً» أو حتى «يأساً» نطلب منه بشدة وإلحاح أن يثبت لنا بأن هناك نظريات بالفعل تحققت، وأن هناك شعارات أصبحت واقعاً معاشاً.طبعاً هناك من ينتظر الآن أمثلة، رغم أن واقعنا يزخر بها، إذ في كل ركن تجد شعاراً معلناً، في كل قطاع عمل تجد ما يسمى «بالرؤية» و«المهمة»، وهي أصلاً مستمدة من نظريات سواء في الإدارة أو التطور أو أساسيات العمل أو النجاح، لكنها تبقى نظريات ويظل مطلقوها منظرين.أدرك تماماً بأن هناك من يقول بأن الصحافة وما يكتبه الكتاب هو تنظير أصلاً، وهي دعوات «أفلاطونية» يسهل إطلاقها لأنه على الورق، لكن الفارق هنا بين الصحافة التي تركز على الأدبيات أحياناً وتذكر بأفضل الممارسات في أحايين أكثر وبين من ينظر في مواقع العمل وبين من يرفع الشعارات، أن الفئات الأخيرة هي التي تملك «أدوات التغيير»، هي التي يمكنها رسم الاستراتيجيات وتطبيقها والعمل وفقها، وهي التي يمكنها أن تقيم الأداء فتغير للأفضل أو توقف الأسوأ، بالتالي إنما نحن مذكرون لمن يرفعون الشعارات، ورسالة التذكير تقول بأن بناء المجتمعات وتطوير الشباب والارتقاء بالعمل لا يكون عبر الشعارات والكلام بل عبر تحويل ما يقال إلى عمل يقاس.ألسنا نتحدث منذ سنوات عن تجديد الدماء وتطوير الشباب وتقوية مخرجات التعليم؟! ألسنا من يقيم على الدوام دورات في التطوير وتعزيز القدرات؟! ألسنا من نقيم فعاليات لا تنتهي للشباب تحت مختلف المسميات؟! طيب أين هي هذه المخرجات؟! هل تم منحها الفرصة وهل بوأت مناصب وهل كلفت بمهام ومشاريع يمكنها أن تعكس من خلالها ما تم تهيئتهم لأجلها؟!ألسنا نحن من نتحدث عن شعارات إصلاحية عديدة على رأسها محاربة الفساد ورفع مستويات المعيشة وجعل المواطن هو محور كل شيء؟! أين هو التطبيق اليوم؟! فقط حجم تقارير الرقابة المالية المتضخم من التقرير الأول إلى العاشر يثبت كم حاربنا الفساد، لكن بالمقلوب! محاولة معرفة رأي المواطن البسيط في مستوى الخدمات وفي وضعه المعيشي تبين لنا «مدى الرضا» عن عملية رفع مستوى المعيشة وجعل المواطن محور كل شيء. المواطن البحريني بات أكثر شخص يعبر عن استيائه من واقعه.من يريد العيش في النظريات لن يتطور أبداً، الفكرة في وجود هذه النظريات التي هي أصلاً مبنية على وقائع حياتية وعصارة تجارب تتمثل بأن تكون امتداداً للتطور البشري من خلال إعادة استخدام نفس الآليات وتطويرها، وتحويل القالب الجامد للكلام والمعادلات إلى واقع متحقق تنتج منه نتائج ملموسة ومحسوسة ويمكن قياسها، والأهم يمكن الحكم عليها سواء بالنجاح أو الفشل.في مجتمعات أدركت بأن الأفعال هي التي تغير الواقع وضعت النظريات لتكون بداية وأساساً لكل حراك، لكن في مجتمعاتنا نأتي بالنظريات لنستخرج منها شعارات جميلة ثم نجلس نراوح في أماكننا وكأن الكلام سيقفز من على الورق ويغير الواقع بنفسه.بالتالي حتى أرى الكلام والشعارات تتحول إلى أفعال، سأظل أردد «تسقط النظريات»!