حيرة الحكومة وترددها في إلغاء الدعم وتحرير الأسعار تعود إلى التخوف من تبعات ومتطلبات هذا التحرير، فعبارة توجيه الدعم إلى مستحقيه سمعناها كثيراً، وقامت لجان حكومية بالفعل بدراستها، والتعرف على كيفية تنفيذها، لكن الحكومة سرعان ما ترددت، وأجلت الموضوع.وبعبارة أكثر وضوحاً، فتحرير الأسعار يعني إلغاء الدعم عن كل السلع وبدون استثناء، والتي تشمل المشتقات النفطية وعلى رأسها الغاز والبنزين، الكهرباء والماء، المواد الغذائية من لحوم حمراء وبيضاء والقمح ومشتقاته.والواقع أن كل هذه المواد والسلع محررة أصلاً في كل دول مجلس التعاون ما عدا البحرين، علماً أن إيرادات البحرين العامة واقتصادها هما الأضعف بين هذه الدول، فإذا أضفنا إلى ذلك طبيعة التركيبة السكانية المائلة لغلبة الأجانب على المواطنين، فإننا نجد أن تحرير الأسعار هو الحل للكثير من أوجه إهدار المال العام، والاستهلاك غير المسؤول.فالإنسان حر في الاقتناء والشراء والاستهلاك وتحديد النوعية والكمية التي يحتاجها من المواد والسلع والطاقة، والدولة لا تتدخل في تحديد هذه الأسعار ولا دعمها، بل إن السوق هو الذي يحدد هذه الأسعار قياساً بما هو ثابت ومتحرك في الأسواق الدولية.أضف إلى ذلك أننا دولة غير منتجة وإنما مستهلكة لكل شيء تقريباً، وبالتالي فإن الدول المنتجة والمصنعة حول العالم هي التي تتحكم وتفرض علينا الأسعار التي نشتري بها ما نأكل ونلبس ونركب ونسمع ونشاهد ونستمتع، وبالتالي فإننا نعيش عل ما ينتج ويصنع غيرنا، وعلى استيراد التضخم وانعكاساته على حياتنا.هذا هو الوضع الواقعي المعمول به والمتعارف عليه في كل دول العالم تقريباً، وحجم الإنتاج والتصنيع المحلي هو الذي يعطي ميزة الدولة على أخرى من حيث أسعار أقل وتوفير سلع أكثر تنوعاً وتنافسية.وفي كل الحالات فإن الدولة تتدخل لخلق التوازن بين دخل الفرد ومصروفاته، وذلك بوضع حد أدنى للأجور وتوفير دخل مناسب ومتوازٍ لمتطلبات احتياجات المستهلك وغلاء المعيشة.فإلغاء الدعم وتحرير الأسعار، يعني تركها للسوق يتحكم فيها كيفما يشاء، وفي معظم الأحوال فإن أسعار السوق تميل إلى الارتفاع بنسب متفاوتة، وتأثراً بعوامل مختلفة، والتحكم في ارتفاع الأسعار يأتي من جانب الدخل والأجور.في حالة البحرين فإن إلغاء الدعم وتحرير الأسعار سيوفر على الدولة 1.6 مليار دينار سنوياً، وهو مبلغ كبير لا شك، ولكنه بالمقابل سيؤدي إلى زيادة ملحوظة في تكاليف المعيشة وميزانية الأسرة، يتطلب من الدولة تعويضها ليس بمنح الموطن المستحق مبلغاً محدداً شبيهاً بعلاوة الدعم المالي (علاوة الغلاء) الحالية، وإنما بإعادة النظر في الأجور بالنسبة للعمال والموظفين بصفة عامة، وفي تقرير التكاليف والمناقصات بالنسبة للتجار والمقاولين.وتحقيقاً لتبعات تحرير الأسعار فإن الدولة بحاجة إلى إنشاء هيئة لحماية المستهلك، وأخرى للأجور، فالأولى تتلقى تقارير ربع أو نصف سنوية من إدارة حماية المستهلك بوزارة الصناعة والتجارة، وهي الإدارة المختصة برصد الأسعار أسبوعياً، ولديها تقارير مقارنة ومعلومات وأرقام عن تطورات أسعار المستهلك.والثانية -الهيئة المختصة بالأجور- تتلقى تقارير نصف سنوية من هيئة حماية المستهلك حول النسب العامة لزيادة الأسعار، ومن ثم النسبة الإجمالية للزيادة أو النقصان، وبناءً على هذه التقارير تقوم هيئة الأجور بتعديل الحد الأدنى للأجور وتفصيلاته حسب الساعة أو اليوم أو الأسبوع أو الشهر، بحيث يوازي هذا التعديل بين تغير أسعار السوق، والقدرة الشرائية للمستهلك من ناحية أخرى.ولأن تطورات الأسعار والأجور تشمل العاملين في القطاعين العام والخاص، فإن من الضروري اتباع إنشاء الهيئتين المذكورتين بدمج وزارة العمل وديوان الخدمة المدنية في وزارة واحدة جديدة تشمل العاملين في القطاعين العام والخاص. إن الحكومة بحاجة أن تتخلى عن ترددها بتحرير الأسعار، وتخليها عن معارضة نشر متغيرات أسعار المستهلك المرصودة من قبل وزارة التجارة، وكذلك التراجع عن رفضها لوضع حد أدنى للأجور.فالجميع يتفق على أن الأسعار بصفة عامة وأسعار المواد الغذائية بصفة خاصة تتضاعف كل سنة، في حين أن الأجور ترتفع أقل من ذلك بكثير، وأن ترك تحديد التغير في الأسعار والأجور لهيئتين مستقلتين سيخدم المواطن العامل والمستهلك، وكذلك الاقتصاد الوطني ويدفع الجميع إلى المزيد من الإنتاج. فهل تتراجع الحكومة عن تخوفها وترددها؟