الرأي

ذوق

المسير

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «في الترمذي عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون: قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون. قال الترمذي: حديث حسن. والثرثار: هو الكثير الكلام بتكلف، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، الذي يتكلم بملء فيه تفاصحاً وتفخماً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق: أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه تكثراً وارتفاعاً وإظهاراً لفضله على غيره، قال الترمذي: قال عبدالله بن المبارك: «حسن الخلق: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى». وقال غيره: «حسن الخلق قسمان: أحدهما: مع الله عز وجل، وهو أن يعلم أن كل ما يكون منك يوجب عذراً، وكل ما يأتي من الله يوجب شكرا، فلا تزال شاكراً له، معتذرا إليه، سائراً إليه بين مطالعه منته، وشهود عيب نفسك وأعمالك»».
مهما خطت الأقلام عن موضوع الأخلاق فلن تستطيع أن تعطيها حقها وتفصيل ملامحها وخطوطها الكثيرة التي يجدر بالمرء أن ينتبه لها بصورة مثلى خلال مسيره في الحياة.. منذ سنوات خلت حرصت على تنظيم دورة خاصة للطلبة عن «الذوق» باعتباره لوحة رائعة من لوحات الأخلاق التي أمرنا بها الإسلام، فبعضها لا يدخل في إطار الحلال والحرام، بل تمثل نكهة خاصة لإسلامنا العظيم، وسمة بارزة خطها لنا القرآن الكريم ورسول البشرية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالذوق لغة: هو آداب السلوك التي تقتضي معرفة ما هو لائق أو مناسب في موقف اجتماعي معين. لذا فإني جمعت «الذوق» في واحة الأخلاق لأنها تعطي شخصية المرء الأثر الكبير والفاعل خلال تعاملاته الحياتية المختلفة، كما تعطيه «المغناطيس الجذاب» الذي لا يستطيع الآخرون أن يبتعدوا عنه لأنه جذبهم بسمو أخلاقه وعلو شأنه وسمة «ذوقه» الذي استمده من خلال تجربته في الحياة. فالمرء يجب أن يراقب تصرفاته وأخلاقه وطبائعه وأذواقه مع من يتعامل معهم بدءاً من البيت ومروراً بالمجتمع وانتهاء بوسائل التواصل الإعلامي التي أصبحت في متناول أيادينا جميعاً، بمعنى أنك تتذوق التعامل مع كل العالم، وتعاملهم بأخلاق الإسلام الرفيعة.
ولعلنا من خلال هذه الوقفة القصيرة نسلط الأضواء على بعض مواقف «الذوق» في علاقاتنا الحياتية المختلفة.
فعندما تدخل المسجد أعطه حقه من الاحترام والتقدير بأنك مقبل على الله تعالى، فلا تدخله «بثياب النوم» أو بملابس منهكة، أو «بشورت».. فليس من الذوق والتأدب مع الله تعالى أن تقبل عليه بهذه الصورة المقززة.. واحذر أن تدخل المسجد «بروائح كريهة»، حتى لا تزعج من حولك.
وعندما تقف سيارتك في مواقف السيارات، فخذ مساحتك المخصصة ولا تأخذ مساحة غيرك، حتى تعطيه الفرصة لتوقيف سيارته وبخاصة في «أحيائنا المكتظة»، ولا تقف أمام سيارات الآخرين حتى لا تعطلهم عن أعمالهم وتسبب لهم أي إزعاج. ولا تكثر من «التفحيط» وإزعاج الناس في مساكنهم.
وإذا كنت في مجلس ودخل من هو أكبر منك سناً ومنزلة فانهض وأفسح له في المجلس، وامسك بيده إلى المكان الذي كنت تجلس فيه.
وعلى مائدة الطعام كن أنت أول المبادرين لدعوة الكبار للبدء في تناول الطعام، ولا تتلهف للأكل قبل أن تصحب معك من هو أكبر منك سناً ومنزلة.
وإذا قابلت الرجل المسن أو صاحب الفضل والوفاء فليس من الذوق أن تصافحه باليد فقط، بل قبل رأسه ويده فمن إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس من الذوق أن تتغافل عن أولئك المقربين الذين كان لهم أكبر الأثر في حياتك، سواء من أسرتك أو أقربائك أو أصحابك أو أساتذتك، فهم يفرحون لك، فاجعلهم أول من يشاركون فرحتك، فسيكون لذلك الذكرى التي لا تنسى لك ولهم، واحذر أن تنقل لهم «صور فرحتك» من الآخرين.
ومن الذوق أنك إذا جلست مع ثلاثة أو أربعة أشخاص فلا تتجاهل أو «تطنش» أحدهم وتركز في حوارك مع شخص آخر طوال الوقت، فإنك بذلك تعطيه رسالة واضحة بأنه لا يمثل شيئاً لديك!
وليس من الذوق أنك «تحقق» مع شخص وتسأله عن كل شاردة وواردة بمجرد أنك علمت أنه سيذهب إلى مكان ما أو سيحصل على أمر ما.. فابتعد عن «الفضول».
وإذا كنت في عملك فليس من الذوق أن تضيع وقتك في الحديث في هاتفك وتهمل عملك.
أما وسائل التواصل الاجتماعي فكن صاحب ذوق رفيع في التعامل معها، من خلال عرض الصور اللائقة والعبارات غير الجارحة، أو تجعل حياتك مفتوحة أمام الآخرين، فالبعض أضحى يستخدم هذه الوسائل في السب والشتم والتعرض لأعراض الآخرين دون أدني ذوق.
للذوق مساحات جميلة في حياتنا، تجعلنا نكون أقرب «للسعادة والجمال»، فاحتفظ بصوره الرائعة.