الرأي

مسير الإيمان والسعادة

المسير

يقول أحد العلماء المختصين «هناك شيء واحد تخطى قواعد التربويين والنفسيين، ذلك هو الإيمان، هو الدين. فالإيمان إذا سكن في قلب، وتغلغل في أعماقه، حول اتجاهه، وغير نظرته للكون والحياة، وأحكامه على الأشياء والأعمال، وعدل سلوكه مع الله والناس، ولم يقف في سبيل ذلك فتوة الشباب، ولا كهولة الكهول، ولا هرم الشيوخ، لقد حار المؤرخون من الغربيين والمستغربين في فهم السر العجيب الذي حول هذه الأمة من رعاة أمم، ومن قبائل بداوة إلى أمة حضارة، وهيأ لها سبيل النصر على كسرى وقيصر، وفتح لها باب السيادة على معظم الدنيا القديمة في عشرات السنين لا عشرات من القرون، ولكن العارفين لا يدهشون ولا يحاربون، فالسر معروف، والسبب معلوم، أن مرده هو «إكسير» الإيمان الذي صبه محمد عليه الصلاة والسلام في نفوس أصحابه، فنقلهم من حال إلى حال، من وثنية إلى توحيد، ومن جاهلية إلى إسلام».
إن الإيمان الخاص هو الركيزة الأساسية في صلاح النفوس والقلوب قبل إصلاح الأمم، وبدونه يعيش الإنسان في تذمر من الحياة، وتأفف من عوالم العيش، فيدمن حب الدنيا ونسيان الآخرة، ولا يتعظ بتلك الرسائل التوجيهية التي يبعثها الله سبحانه وتعالى إليه حتى ينجيه من المتاهات، ويرجعه إلى جادة الصواب، وإلى ميدان الإيمان الجميل. وكما بين أحد العلماء المختصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استطاع أن يصب إكسير الإيمان صباً في نفوس أصحابه، كما بارك الله تعالى له فاستطاع أن يفتح مغاليق القلوب بالإيمان الحي الذي رفع رايته منذ اللحظات الأولى لميلاد الدعوة الإسلامية يوم أن كان يخلو بنفسه في غار حراء ليخط بيمينه المباركة خطوط الخير، بإيمان غرسه الله تعالى في نفسه، وبكلمات موجزات قرع بها جبريل عليه السلام مسامعه ليعطيه مفتاح «إكسير الإيمان» ليصبه فيما بعد في أفئدة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
لذلك فنحن نجهل في كثير من الأحيان معرفة مفاهيم السعادة في الحياة التي ترتبط أشد الارتباط بتغلغل جذور الإيمان في نفوسنا، حتى نستطيع أن ننال مرتبة الرضا القلبي والاستقرار النفسي الذي يضمن لنا العيش بسلام في الدنيا.. يقول عالمنا عن السعادة النفسية: «هي شيء ينبع من داخل الإنسان، ولا يستورد من خارجه، وإذا كانت السعادة شجرة منبتها النفس البشرية، والقلب الإنساني، فإن الإيمان بالله وبالدار الآخرة هو ماؤها، وغذاؤها، وهواؤها». ويقول أديب مصر مصطفى المنفلوطي رحمه الله «حسبك من السعادة في الدنيا: ضمير نقي، ونفس هادئة، وقلب شريف».
إن مشوار السعادة يرتسم محياه على وجدان النفوس الهادئة، والقلوب النقية المتلهفة إلى من يعيدها إلى واحة الحياة بمائها وغذائها وهوائها النقي، إنه المشوار الجميل الذي يطبع على نفوسنا علامات الرضا والطمأنينة والبعد عن السخط والتذمر مع نسيان الماضي الأليم. نعم من كانت الدنيا هي همه عاش في وبال من العيش، ومن كانت الآخرة هي همه وكتاب الله أنيسه وقرة عينه في الصلاة، جعل الله تعالى السعادة بين عينيه يتذوق حلاوتها حتى الرمق الأخير من حياته. فمن آمن بالله حق الإيمان ومن سعى للآخرة وللجنة الباقية ارتوت نفسه بماء اليقين، وتذوق طعم الرضا، وتنسم نسمات الراحة النفسية الإيمانية، أما من عاش للقمة العيش ونسي عمل الآخرة، ولم يأخذ نصيبه في ميدان عمل الخير، فذلك لعمري إنسان قد أكلت الدنيا عمره، ولم يعرف طعم السعادة الحقيقية، لأنه لم ولن يتذوق طعم الهدوء النفسي الذي يعود مرده إلى الإيمان العميق بما يقدره الله تعالى وكتبه لعباده في الدنيا، لذا كان مفهوم «الرازق» من أسماء الله الحسنى أن تتيقن بأن الرزق بيد الله تعالى، وهو من يتكفل برزقك عاجلاً أم آجلاً، كما قال الله تعالى في محكم التنزيل «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير».
ومن ينابيع السعادة السكينة والاطمئنان النفسي التي جعلت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إلى السماء في رحلة الطائف ويدعو بدعائه المؤثر. ثم الثقة برزق الله.. فهذا حاتم الأصم قال لأولاده: «إني أريد الحج. فبكوا وقالوا: إلى من تكلنا؟ فقالت ابنته لهم: دعوه فليس هو برازق. فسافر فباتوا جياعاً وجعلوا يوبخون البنت، فقالت: اللهم لا تخجلني بينهم. فمر بهم أمير البلد وطلب ماء، فناوله أهل حاتم كوزاً جديداً وماءً بارداً، فشرب وقال: دار من هذه؟ فقالوا: دار حاتم الأصم. فرمى فيها قلادة من ذهب، وقال لأصحابه: من أحبني فعل مثلي، فرمى من حوله كلهم مثله. فخرجت البنت تبكي، فقالت أمها: ما يبكيك؟ قالت: قد وسع الله علينا، فقالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟».