هناك قاعدة مهمة في التشريع إن لم تكن صياغة البنود واضحة ومحددة في القانون، وتسهل ترجمتها إلى تدابير وإجراءات قابلة للتنفيذ، وتحدد على إثرها العقوبات والجزاءات، ففي هذه الحالة سيوضع القانون في الأدراج كأنه لم يكن، أو أنه سيفتح باب التأويل على مصراعيه حتى يفرغ القانون من مقاصده.إن كانت الدولة تريد فعلاً أن تعالج خللاً يعاني منه «قانون الجمعيات السياسية» السابق الذي سمح بارتهان القوى السياسية للمرجعيات الدينية منذ لحظة تأسيس الجمعيات «الأحزاب» السياسية عام 2002 إلى اليوم، فلا تقدم اليوم هذا النص المطاطي المهلهل الذي يعد -كسابقه- غير محدد وغير مفهوم وغير قابل للتطبيق وترجمته إلى تدابير وعقوبات وبالإمكان التحايل عليه بسهولة. نحن مع الأهداف التي تقف وراء التعديل قلباً وقالباً، الحكومة أرادت فصل العمل الحزبي عن العمل الدعوي ومنع هيمنة رجال الدين على العمل الحزبي وهذا مقصد متفق عليه، فقد كان رجال الدين -مع الأسف- سبب ابتلاء البلاد وانحراف التجربة الديمقراطية وسبب تحويل البرامج السياسية كميدان للمنافسة بين القوى السياسية إلى تنافس على جنة ونار وموقعة للجمل في كل عمل سياسي، فأرادت الحكومة معالجة هذه الإشكالية بالبند التالي في المشروع بقانون لتتقدم به للسلطة التشريعية في الفترة الزمنية المتبقية من عمرها والتي لا تزيد عن شهرين، ونص البند حسبما أوردته صحيفة «الوطن» على التالي «ألا تستخدم الجمعية السياسية المنبر الديني كمرجعية لها».قبل كل شيء لابد أن نعرف أن كل نص يمنع فعلاً ما، يجب أن يكون واضحاً في لفظ «المنع» لأن لكل لفظ تدابير وعقوبات حسبما جاء في اللفظ، فـ«يحظر» لها تدابير وعقوبات، و«يمنع» لها تدابير وعقوبات، و«ألا» لها تدابير وعقوبات، و«ألا» التي استخدمتها الحكومة هي أخف أدوات المنع!! وكأن الحكومة أرادت على استحياء وتردد أن تقدم هذا البند. فإن كانت الحكومة ترى أن خلط العمل الدعوي بالعمل الحزبي جر على البلاد الويلات والخراب والدمار، فإن تشريعها يجب أن يحيط بهذه الأولويات المرحلية إحاطة واضحة وصريحة ومباشرة من خلال ضبط النص ووضوحه، ومن خلال التشدد في استخدام لفظ المنع حتى يصل إلى «الحظر» حتى يعقب الحظر عقوبات مغلظة تتناسب وأثر هذه الجريمة على المجتمع.ثانياً؛ لابد هنا أن نضع في اعتبارنا كيفية إحاطة سبل التحايل والالتفاف على هذا المنع، وعدم ترك مساحة التأويل كبيرة كالتي تركها النص لاجتهادات القاضي، بحيث تتركه عرضة للتفريغ من جوهره وروحه، وأن نضع في اعتبارنا كيف نحدد من خلال ضبط النص ما نريد أن نمنعه، والنص الذي تقدمت به الحكومة كيف سيحدد معايير وضوابط قياس «استخدام» الجمعية السياسية للمنبر الديني «مرجعية» له إن أراد إدانتها؟ كيف يمكن لمحامي الادعاء إثبات «مرجعية» المنبر للجمعية؟ هذا نص مهلهل ليس به ضوابط ولا وضوح.يقول أبو العلاء المعري في قصيدته..ويعتـري النفـس أفكـار ومعرفةوكـل معنــى لــه نفي وإثبـــاتفإذا كنا قد شرقنا وغربنا في تفسير وتأويل النص القرآني وهو المنزل، فما بالك ونحن بصدد التعامل مع نص دستوري وضعي؟ وإذا كانت المقاصد هي التي تقف وراء التشريع عند كل مجتمع فإن المقصد من وراء تلك العبارة وذلك البند لا يتسق وحجم تبعاته وآثاره، وترك غير واضح وغير محدد وترك مفتوحاً على مصراعيه فكأنه لم يكن، وهنا نقول إنه بعد الدمار الذي جره علينا خلط العمل الدعوي بالعمل الحزبي من بلاء على البلاد، فإن معالجة هذا المقصد بهذا الشكـــل «المهلهــل» تــدل على استهتار واستهانـــة بأساس الأزمة وعمقها.