الرأي

سلوه الفردوس الأعلى

المسير

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري «إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة». ويقول ابن القيم رحمه الله: «لما علم الموفقون ما خلقوا له، وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم، فإذا علم الجنة قد رفع لهم، فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم، فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول، ولا ينفد بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته، أوله مخاوف، وآخره متالف، فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات، والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار..».
جنة اشتاق إليها الصالحون، وعمل لنعيمها المخلصون، وباتت حصائد النفوس تثمر ينابيع الخير، وانشغلت القلوب بذكر محبوبها الكريم، والألسن تلهج بحمده وشكره والثناء عليه، وأضحت الأنفس ترتجي أن تقطف ثمارها حتى تحظى بالمكانة العليا، ولذة النظر إلى بارئها، إنها الجنة الغالية التي تشحذ من أجلها العزائم والهمم، وتستيقظ من أجلها النفوس الغافلة الغارقة في بحر أحلامها الدنيوية السادرة.
إن المسارعة إلى تلك الجنة الفسيحة وإلى «الفردوس الأعلى» إنما تستوجب أن يتمثل المرء في سلوكه وحياته تلك الصفات التي ذكرتها الآية الكريمة: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين».. فما هي صفاتهم؟ قوله تعالى: « الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين». فتراهم يسارعون للإنفاق في الرخاء والشدة، وفي جميع أحوالها الحياتية، ويكظمون غيظهم ولا يظهروه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» رواه أحمد. وهم من يعفون عن كل من أساء في حقهم، وهم من يفشون السلام، ويطعمون الطعام ويصلون بالليل والناس نيام، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الترمذي «أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».
إن أهم ما يعين الإنسان على العمل الصالح والعمل للجنة الغالية، مخافة الله تعالى ومراقبته في جميع الأمور الحياتية، والارتقاء إلى مقامات الإحسان، فهو المبعث إلى العمل الصالح الدائم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلجِ، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» رواه الترمذي. يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح هذا الحديث: «دلج يعني: مشى في الدلجة وهي أول الليل، ومن أدلج بلغ المنزل، لأنه إذا سار في أول الليل، فهو يدل على اهتمامه في المسير، وأنه جاد فيه، ومن كان كذلك بلغ المنزل. والسلعة: يعني التي يعرضها الإنسان للبيع، والجنة قد عرضها الله عز وجل لعباده ليشتروها، قال تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة..». فمن خاف: يعني من كان في قلبه خوف من الله، عمل العمل الصالح الذي ينجيه مما يخاف».
لا تفوت عليك الفرصة يا صاحبي، فالزمن يمضي، وأيامه تتسارع، وأوقاته تتصرم، فاستغل كل فرصة في الخير، ولا تسوف أمورك، واشغل كل لحظاتك بكل خير يقربك إلى مولاك، وبكل ميدان تقترب من خلاله إلى أعلى مراتب الجنان، فلا تقبل أبداً «بهامش الأعمال» بل ابحث عن طريق المشمرين، من تركوا هوامش الحياة ولذائذ الدنيا ومضيعات الأوقات، وارتحلوا إلى ميدان يعشق الجمال الخالد في الفردوس الأعلى. روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه». فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض». قال: يقول عمير بن الحمام رضي الله عنه: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم». قال: بخ بخ. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قول بخ بخ؟!». قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها». فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل».