الرأي

قلبك

المسير

يقول ابن القيم رحمه الله: «إذا شاهدت القلب، تجد ملكاً عظيماً، جالساً على سرير مملكته، يأمر، وينهي، ويولي، ويعزل. وقد حف به الأمراء والوزراء والجند، كلهم في خدمته. إن استقام استقاموا، وإن زاغ زاغوا، وإن صح صحوا، وإن فسد فسدوا. فعليه المعول، وهو محل نظر الرب تعالى، ومحل معرفته، ومحبته وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، والعبودية عليه أولاً، وعلى رعيته وجنده تبعاً. فأشرف ما في الإنسان قلبه، فهو العالم بالله، الساعي إليه، المحب له، وهو محل الإيمان والعرفان. وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل، المخصوص بأشرف العطايا، من الإيمان والعقل. وإنما الجوارح أتباع للقلب، يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، والراعي للرعية. والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنما هي آثاره. فإن أظلم، أظلمت الجوارح، وإن استنار، استنارت. ومع هذا، فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، عز وجل. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على طاعتك»». وقال بعض السلف «القلب أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانها». وقال آخر: «القلب أشد تقلباً من الريشة بأرض فلاة، في يوم ريح عاصف».
كم نحن في مسيس الحاجة لتفقد قلوبنا في كل حين، واستجماع مشاعرنا وأحاسيسنا في هذه المضغة الصغيرة المتقلبة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». القلب الذي يعيش بنبضاته المرء جسدياً ومعنوياً وحسياً، فكل مشاعره وأحاسيسه وتحركاته تنبع من هذا الكيان الصغير الذي يشرف على جميع جوارحنا. نحتاج لمصفاة تصفي قلوبنا من أدران الدنيا وعوالق الحياة حتى نقوى على العيش بسلام مع أصناف البشر وفي مسير الحياة، نصفيه من كل التوافه ومن كل الأحقاد والأضغان حتى نكون مع الله تعالى دائماً في كل منعطفات حياتنا، وفي كل شؤوننا وشجوننا لا نحيد عن مسير الحق والخير لحظة واحدة، لأننا استطعنا أن نعلق قلوبنا بالله تعالى وحده في كل خطوة نخطوها.
فعندما يصلي المرء فرضاً أو تطوعاً يستجمع كل أحاسيسه في الصلاة بقلب خاشع متبتل يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه، بقلب وجل يتفكر في كل آية يتلوها في الصلاة، وفي كل تسبيحاته في الركوع والسجود، فيعيش بوجدانه مع الله تعالى.
وعندما يقرأ كتاب الله تعالى يقف مع كل آية كأنه يقرأها للمرة الأولى، يتفكر في معانيها، ويتأمل واقعها ككيان يسري على الأرض، يقرأ الآيات بصوت خاشع وبقلب متبتل يبتغي الخير من مولاه.
وعندما يرفع يده للدعاء فإنه يدعوه بقلب غير لاه حاضر مع كل كلمة ودعاء يدعوه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب لاه». بمعنى أن المرء يجب أن يستيقن بأن هذا الدعاء سيستجاب له بشرط حضور القلب، والالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه النابعة من قلب يراقب الله تعالى في السر والعلن.
وعندما يخرج كل يوم إلى معاشه وحياته اليومية، فإنه يصطحب معه «بذور الإنعاش القلبي» ومن أهمها الإخلاص بأن يكون مخلصاً في كل عمل يقدمه للآخرين، يبتغي فيه الأجر والمثوبة من رب العالمين وليس من أي كائن من البشر، فما عند الله تعالى هو خير وأبقى. كن مخلصاً في كل حركاتك وسكناتك فإن الإخلاص هو بذرة مثمرة في قلب يعرف ربه، فإن استطعت أن تعطيه النصيب الوافر من الاهتمام نمت ونمى قلبك وإيمانك الصافي لتبرز أعمالك فيما بعد بأجمل صورة أكثر من كونها مجرد عطاء للآخرين، لتكون نماء لك في جنة عرضها السموات والأرض.
وما أروع أن تغرس بذور الصفاء والنقاء في قلبك، فلا تحمل أي حقد أو حسد، ولا يحترق قلبك لرؤية الخير عند الآخرين، ما أجمل أن يكون قلبك ساكناً مطمئناً لا يلتفت لماديات الحياة، بل يهمه في المقام الأول أن يكون «القلب السعيد المطمئن» الذي يهمه في المقام الأول إرضاء ربه وكسب رضاه.
لذا احرص دائماً بأن يكون قلبك متعلقاً بربه يبتغي رضاه ويعشق جنته، واحذر من موانع تصفية القلوب، والتي تقف حجر عثرة أمام استقامته وتصفيته من الأدران، اعتن بقلبك جيداً وراقبه باستمرار وحاول أن تفعل فيه «الميزان الحساس» حتى إن حاد عن طريقه لحظة واحدة، استطعت أن تعيده إلى الصواب، وأن ينبهك كلما قربت من الوقوع في منحدرات الإثم. «قلبك» بالنسبة لك كنز ثمين، حافظ عليه وازرع فيه باستمرار بذور الإيمان حتى تحظى بقرب وتوفيق من ربك الرحمن الرحيم، وحتى تحظى بحب الناس لك في دنيا قصيرة، وبعمل خير لا ينقطع بعيداً عن كل «الترهات» الحياتية التي يجعلنا الناس نعيش في طوفانها المميت.. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.