مسح آمر اللواء 35، العقيد سالم مسعود، جبينه من عرق صدمة الغدر وهو ينظر لساعته التي تشير إلى 6:45 من صباح 2 أغسطس 1990م. كان صدى سؤال قائد الكتيبة 7، المقدم أحمد الوزان، يغطي على صوت فحيح مدرعات «فرقة حمورابي العراقية» وهي تتمدد كالحية الرقطاء على طول الخط السريع.- هل أتعامل معهم سيدي؟- نعم.وانطلقت أول قذيفة على الغزاة من دبابة النقيب طالب جويعد مفتتحاً معركة الجسور، وأخذت دبابات العدو المحترقة تتصادم، ثم بدأ عرض مشاهد من كوميديا سوداء، كان طالب جويعد بدبابته يتقدم حتى يلامس وجه حمورابي ودباباته السوفيتية T72 فيمزقه دون وجل ويعود أدراجه، مما جعل هول المنظر يخيم ليس على الغزاة فقط، بل على آمر اللواء نفسه، وهو يرى النقيب الشقي صاحب المقالب يتحول مزاحه لشراسة أهلته للقب «صائد الدبابات»، بعد أن دمر30 دبابة عراقية. وتستمر الملهاة؛ فيطلب البطل جويعد من سائق دبابته أن يجلب له من بقالات الشارع العام التي لم يعلم أصحابها بالحرب «عصير سانكيست وبسكوت»، قائلاً «أخاف الموت جوعاً أكثر من خوفي من نيران الغدر». يقول سالم مسعود: «كان طالب يخرج أثناء القتال والقذائف تنهمر من حوله، واقفاً على دبابته يأكل ويشرب ويكبر الله، مشجعاً زملاءه للاستهانة بالحرس الجمهوري وسمعته المرعبة، ثم ينتهي المشهد بفك التماس مع العدو». ويذهب العقيد سالم إلى دبابة النقيب طالب جويعد خليل الشمري يخرجه منها ويضمه بالأحضان وهو يقول بارك الله فيك وفي زملائك، إن الكويت لتفخر وتعتز بأمثالكم. لقد احتار رفاق النقيب طالب جويعد إن كان صاحبهم في قمة الشجاعة أم مسه ضرب من الجنون أم كان يدفع قسطاً من دين لوطنه يستحيل سداده!وفي مكان آخر من نفس الزمان أمر قائد كتيبة المدفعية 50 باللواء 35 المدرع المقدم فهد خليل الحشاش بإرسال من يبحث عن رجاله في بيوتهم بالجهراء المقطوعة عنها الاتصالات، فالمدفع يحتاج إلى تسع ساعات ليجهز للمعركة، لكن القوة لم تكتمل. أما من كان بالمعسكر فشرعوا بالتجهيز، وكان الواحد يحمل قذيفة تزن 50 كلجم على كتفه. كان من حسن حظ رجال المدفعية أن الصبات الخرسانية على جانبي الطريق تجبر دبابات العدو على ملازمة الخط. وقد تمركزت المدفعية الكويتية في سوق الإبل على طريق السالمي، وأصدر الحشاش أوامره لبدء حفلة قتل مدرعات الحرس الجمهوري العالقة. كانت إصابات المدفعية الكويتية مذهلة، فبدأ الرجال في تغيير إحداثيات رميهم، بل وتفننوا في تغيير أنواع القذائف والذخيرة من متفجر إلى فسفوري إلى حارق.يقول البطل المقدم الحشاش؛ أثناء إعطائي الأوامر أحسست بحرارة في جسمي، «ثم نظرت فوجدت ذراعي اليسرى وقد سقطت بجانبي» لقد أصيب البطل فهد إصابة بالغة ونزف دمه بغزارة، فطلب العقيد سالم من رفاقه، حسن مضحي وفؤاد الوهيب، أن يأخذاه إلى مستشفى الجهراء، فوضعاه في مدرعة قاداها وهما يقومان بعدة أعمال خارقة في وقت واحد. كتجاوز خط الحرب العراقي المكون من طابور الدبابات T55 وT72، ثم السير بجريحهما في الصحراء والمدرعة تعلوا وتهبط وتجمع الغبار والدخان، وأخيراً شق طريقهما بالنار عبر تقاطع سيطرة للحرس الجمهوري، ورغم فقدان المقدم الحشاش لدمه ثم لوعيه إلا أن رفيقيه أوقفا سيارة إسعاف ووصلا به إلى مستشفى الجهراء.ومن يستفتي التاريخ يجد أن الإنسان يستبسل في الدفاع عن أمته وبدرجة أقوى عن وطنه، ثم يبلغ التفاني مداه عندما يقاتل عن منطقته والشوارع التي هو جزء من جغرافيتها بسكانها وحياتها اليومي. وفي معادلة بسيطة التحق عبدالكريم الكندري بالجيش لأن والده كان ضابطاً قبله، وقد عمل في اللواء 80 بالجهراء التي فيها منزلهم. وفيما كان يلتحق بوحدته يوم الغزو؛ اندفعت قوة واجب عراقية سريعة لتحقيق المباغتة على محور العبدلي -الجهراء- العاصمة لاحتلال قصر دسمان. لكن وصول الملازم عبدالكريم طالب الكندري للخط السريع ومعه خمس مدرعات خرب خطط الغزاة في القبض على رموز الشرعية. وعلى الرغم من صغر حجم القوة المدافعة إلا أن عبدالكريم وسريته استطاعوا الصمود وتدمير العشرات من أرتال المشاة وناقلات الجند، مما قيد القوات الغازية وأفشل هدفهم، ويتذكر أهل الجهراء تحت الاحتلال دبابة محترقة أمام مطعم السواحل الكويتية. فقد صمد الشهيد بسريته حتى الساعة 11 صباحاً، ثم شن الغزاة هجوماً وفشلوا، فطلبوا الإسناد الجوي، فأصيب الشهيد بحروق شديدة في بطنه ورجليه من صاروخ طائرة هيلوكبتر عراقية، وقام زميله الملازم أول خالد الفيلكاوي بحمله إلى مستشفى الجهراء، لكنه أسلم الروح فداء لأهله وجيرانه، لأن للوطن في رقابنا ديناً يستحيل سداده.