حين تتصفح التاريخ بحثاً عن معلومات حول حرب المدن «Urban warfare» لن تجد إلا نزراً يسيراً يتحدث عن أسلاف بعيدين لهذا النوع من الحروب عرف باسم «الحصار»، فقد أصبحت الجيوش بآلاتها الضخمة تبحث عن الصحارى والسهول لحسم خلافاتها. لذا اختصت بحرب المدن قوات الصفوة في الجيوش الحديثة لتعقد فنونها وصعوبة إجادتها. وبدون مقدمات أصبحت منطقة الشرق الأوسط مؤخراً أكبر مدرسة عسكرية مفتوحة لمهارات حرب المدن، أو كما تسمى أيضاً القتال في الأماكن المبنية أو قتال الشوارع، ففي الأكاديمية العراقية للموت تشكلت في شوارع الأنبار مهارات حرب مدن مذهلة أجبرت المارينز على الانسحاب، وفي المدرسة السورية فرت جحافل الأسد فزعاً من مهارات الثوار في الضرب والاختفاء والقصف والقنص والتفجير، فعمد الأسد بقصفهم بالبراميل المتفجرة، أما في المنهج الليبي فنجد التكتيكات المميتة صفحة بعد صفحة، بل وبأحجام كبيرة؛ كالهجوم على معامل التكرير وحرق الطائرات واعتراض المواكب المحصنة لاختطاف حتى رئيس الوزراء.الجانب الإيجابي من حرب المدن العربية تكتب فصوله حالياً حركة المقاومة الفلسطينية في غزة ضد الصهاينة، الذين أتت حساباتهم مبنية على معطيات عدة؛ منها أن حركة حماس تواجه أزمة سياسية واقتصادية خانقة، فانضواؤها تحت العباءة الإخوانية أرسلها لزاوية الخصم مع القاهرة، كما أن القوى الإقليمية بتجاذباتها ونزاعاتها قد انشغلت سياسياً ومالياً بصراعات أخرى في سوريا وليبيا واليمن، يضاف إلى ذلك علاقات حماس المرتعشة مع السلطة في الضفة الغربية، مما أوحى للصهاينة بضعف حميمية تواجد حماس في قلوب أهل غزة. لقد كانت فرصة ذهبية لتحقيق أهداف عسكرية عدة لنتنياهو؛ تشمل القضاء على الصواريخ وتدمير الأنفاق والقضاء على القادة السياسيين، لكن العدوان الجاري على غزة كشف قدرة المقاومة على العمل على كل أنواع الفرضيات، بل وخلق نتائج مغلوطة لدى الصهاينة جراء افتقارهم لرؤيا تؤلف بين عناصر الأزمة السياسية التي تمر بها حماس مع جوارها الإقليمي ومع القوة العسكرية الصهيونية الغاشمة لتحقيق المخرجات المطلوبة.لقد أصبح الفدائي الملثم بشماغ أسود وبيده رشاش كلاشنكوف عارياً من صور ماضي الصمود الفلسطيني الرومانسي، وبدأ يتشكل فكر عسكري فلسطيني في باب حرب المدن، فقد دخلت الصواريخ لغزة وهي إيرانية وروسية الصنع حين كانت أجنة، وتحولت حين كبرت إلى وحوش، فلسطينية الصنع، كاسرة، مما يعني القدرة على إنتاجها محلياً بالكميات المطلوبة وإمطار الصهاينة بها في كل وقت ومكان، وكان الجديد هذه المرة كثرتها ووصولها لتل أبيب وحيفا وتهديد مفاعل ديمونة، وهو تحول لو تم استثماره فسيضع الأمور على طاولة مفاوضات مختلفة. كما كان من مظاهر الفكر العسكري الجديد تحييد القوة الجوية، التي طالما نجحت في القيام بعمليات التجريد، وقد تبنى الصامدون عقيدة الدفاع السلبي للحد من التفوق الجوي للعدو بالتخفي عن عيونه عن طريق الأنفاق بأنواع فردية ومخابىء جماعية وللتخزين ولحماية منصات الإطلاق، وبالأنفاق الخاصة بالتسلل إلى داخل العمق الصهيوني، ورغم تدريبه لجنوده للقتال في هذا الأنفاق إلا أن صدمته كانت في عددها وشبكاتها وفخاخها المعقدة التي استعصت على وحدات الهندسة لديه فطلب مضاعفة أعداد المجندين.أما الأمر الثالث هو أن العمليات الهجومية تنوعت بين اختطاف الجنود الصهاينة وبين الإحاطة بمدرعاتهم وقتل من فيها، أو بالتسلل إلى نقاطهم الحصين، وأخيراً الإنزال البحري برجال الضفادع. لقد كان من ثمرة الفكر العسكري الفلسطيني الجديد صدمة الصهاينة من أن التشابه في مقدمات هذا العدوان مع ما سبقه لن تفضي إلى تشابه في النتائج، فقد انتزعت المقاومة توقيت نهاية النزهة الصهيونية ليصبح الأمر بيدها.
Opinion
انتفاضة الصاروخ على الرضوخ
06 أغسطس 2014