تجربة فريدة في التاريخ الإسلامي لم تلق من الاهتمام والانتشار ما تستحقه. إنها تجربة المماليك في مصر والشام. والفرادة في تجربتهم تكمن في تاريخ نشأتهم، وفي تركيبتهم، وفي هدف استقدامهم والوظيفة التي كانت مناطة بهم، ثم كيف تحولوا وماذا صاروا، ثم كيف تمت «إبادتهم». إن قصة المماليك هي إحدى تمثلات قصص العبيد حين يصبحون سادة ويفقدون صوابهم ويستفحل شرهم ولا حل يجدي معهم سوى القضاء عليهم.كان المماليك عبيداً استقدمهم الأيوبيون لينشئوهم على فنون الحرب والقتال. أغلبهم تم اختطافهم، أو اغتنامهم في الحروب، أطفالاً من دول غير إسلامية. ثم عمل سلاطين الأيوبيين على تربيتهم تربية خاصة تقوم على تفقيههم وتأديبهم على أيدي العلماء والفقهاء، ثم حين يصلون سن البلوغ يتدربون على حمل الحسام وفنون القتال والتخطيط الحربي. فنشأ المماليك على قدر كبير من العلم والدراية وتبجيل العلماء، وهم كذلك فرسان أبطال وقادة جيوش محنكين. أراد الأيوبيون من المماليك أن يكونوا جيوشاً قوية تدين بالولاء للملك دون غيره من أقطاب الدولة، فالملك هو الذي استقدمهم أو أعتقهم من الرق ورعاهم وجالسهم وعكف بنفسه على أمورهم واحتياجاتهم وتنشئتهم، فهو بمثابة الأب لهم. وكانوا لا ينادونه بالسيد بل الأستاذ. لكنهم في منعطف تاريخي يستحق التأمل، تحولوا من مملوكين إلى مالكين حكموا مصر ما يزيد عن القرنين (1250-1517). وقد خلد لهم التاريخ قدراً أبيض من صفحاته، فحين حكموا نهض العلم في البلاد، وحين غزا التتار والصليبيون مصر كانوا هم المصد الأكبر والأقوى.تمكن المماليك من حكم مصر زمن شجر الدر حين تولت هي الحكم بعد وفاة زوجها الملك الصالح أيوب وساندها في ذلك (المماليك البحرية)، ونتيجة لرفض الخلافة العباسية تولي امرأة حكم مصر بحث المماليك عن حل توفيقي يبقي لهم السلطة الطولى في الحكم ويرضي آل العباس، فزوجوا شجر الدر من أحد قادة المماليك الكبار عزالدين أيبك الذي تنازلت بدورها له عن العرش ونصبوا طفلاً ملكاً على العرش الأيوبي ليبقى أيبك وصياً على العرش. تلك كانت البداية... ثم انشغل المماليك عن حماية العرش بالسعي له، فانقلبوا على السلاطين الواحد تلو الآخر، وانجرفوا خلف تجميع الثروات واقتناء الضياع والتسلط على الناس. وصار المماليك سلطة موازية وخطراً على كل سلطان.استمرت قوة المماليك حتى عصر محمد علي باشا...، حيث كانوا يتمتعون بنفوذ مقلق يفوق نفوذ الدولة، وكان محمد علي باشا كلما سالمهم وعقد معهم اتفاقاً ينقضونه، وتروي بعض الأخبار أنه كشف بعض مكاتباتهم التي يخططون فيها لقتله والاستيلاء على السلطة بعده. فدبر لهم مكيدة تعد أكبر عملية اغتيال سياسي في تاريخ مصر. إذ كلف الباب العالي العثماني محمد علي باشا بالقضاء على الدعوة الوهابية في الجزيرة العربية، فجهز محمد باشا جيشاً كبيراً بقيادة ابنه إبراهيم باشا وأعد حفل عشاء كبير لتوديع الجيش عند خروجه من القلعة. وحضر ما يقرب من 500 من أمراء المماليك الحفل في أبهى حللهم وبدأت مراسيم توديع جيش إبراهيم باشا يتقدم الجيش الأمراء والقادة وكبار الشخصيات وخلف الجيش قوات خاصة ومن خلفهم المماليك. وما إن خرجت مقدمة الجيش من باب القلعة حتى أغلق الحرس على القوات الخاصة والمماليك الأبواب وقفزت القوات على الصخور والسلالم وبدأ إطلاق النار على المماليك وتعرضوا لإبادة حقيقية أنهت عقوداً طويلة من سيطرتهم على البلاد بالدفاع والحماية أولاً ثم بالحكم والنهضة ثانياً ثم بالتسلط والظلم في الثالثة. وبعد أن تم إبادة 500 من المماليك في مذبحة القلعة (1811م) انطلق الحرس في أرجاء مصر يقتحم ضياع باقي المماليك يحرق دكاكينهم وبساتينهم ويطلبهم في كل مكان رافضاً شفاعة أحد في أي مملوك ويقتلهم ويرسل رؤوسهم إلى محمد علي باشا، يعلقها في الساحات العامة. وبذلك قضى على أكثر من ألفي مملوك ممن نجوا من مذبحة القلعة.ويقول المحللون التاريخيون في شأن سياسة محمد علي باشا إن حكمه ما كان ليمتد ويقوى في وجود المماليك، وأن سلطتهم وسطوتهم ستعوق أي تقدم لحكمه وستهدد ما كان قد وعده به السلطان العثماني بأن يترك حكم مصر لأسرة محمد علي باشا يتوارثونه إكراماً لخدمات محمد باشا الجليلة. ويضيفون أن «مذبحة القلعة» كانت ضرورة وكانت مطلباً من مطالب شعب طال به جور المماليك. وأن مصر بعد «مذبحة القلعة» انطلقت في نهضتها ودخلت العصر الحديث وتمكن محمد علي باشا من بناء الدولة المدنية الحديثة بكافة مؤسساتها التي أنتجت الدولة المصرية الحالية.وإن في التاريخ لعبرة..