أفرز الربيع العربي عدة ظواهر مقلقة بحجة الشعارات التي استند إليها، مثل حرية التعبير عن الرأي وإسقاط الأنظمة العربية والإطاحة بمؤسسات الدولة الفاسدة. ومن آثار ما سبق بروز ظاهرة (العكاكيش)، نسبة إلى توفيق عكاشة مالك قناة الفراعين، الذي تردد اسمه في حرب غزة أكثر مما ترددت أسماء القادة الميدانيين. غير أن لتوفيق عكاشة نسخاً متعددة في كل جهة وفي كل فريق دخل طرفاً في حرب غزة الأخيرة.نستطيع تمييز بعض ملامح الجدال غير الصحي الذي واكب العدوان الصهيوني على غزة، والذي كان واجهته الإعلام المرئي والمقروء وترك ترسباته في شبكات التواصل الاجتماعي، إلى فريقين؛ الأول: لم يميز بين حماس من حيث هي حركة مقاومة فلسطينية تشهر السلاح في وجه المحتل الصهيوني وقدمت الكثير من الشهداء من أبنائها وصارت واجهة المقاومة في هذا العدوان، وبين انتمائها الإديولوجي من حيث هي فرع مسلح لحركة التنظيم الإخواني، الذي هو بدوره أداة من أدوات العاصفة الربيعية. هذا الفريق استثمر دور التنظيم الإخواني في نشر الفوضى في الوطن العربي واختطاف ثورات شعوبها. وركز على تورط، بعض عناصر حماس، في بعض أحداث مصر أثناء ثورة 25 يناير وزمن حكم جماعة الإخوان لمصر. فألغى الشعب الفلسطيني المنكوب من حساباته وأثنى في خطاباته على القصف الصهيوني بهدف تدمير حماس واعتبر حماس هي من جرت العدوان على غزة وهي من يتاجر بدماء الشعب الفلسطيني لتحقيق مصالحها وتشكيل واجهة دعائية للتنظيم الإخواني الذي بدأ يسقط تدريجيا في الوطن العربي. وربما يكون رجل الإعمال (غير الإعلامي) توفيق عكاشة صاحب قناة الفراعين خير من مثل هذا الدور مع ثلة من أصحاب الأجندات الصهيونية في الإعلام المصري خاصة والعربي عامة.الفريق الثاني: وجّه مع كل صاروخ (حمساوي) يقصف إسرائيل صواريخ موازية يقصف بها الدول العربي بحجة الخذلان العربي. فذريعة دعم المقاومة شُنت هجمات ممنهجة وشرسة ضد مصر والرئيس المصري والجيش المصري، وتم اتهام مصر بأنها تحكم من قبل إسرائيل وأنها تحاصر غزة وتجوعها بإغلاق معبر رفح وهدم الأنفاق. وتم ترويج شائعات وبث صور مفبركة لإرسال الجيش المصري مساعدات غذائية فاسدة. ولم تكن مصر الوحيدة التي طالتها صواريخ (دعم المقاومة الفلسطينية)، فما أن دخل الوفد الإماراتي غزة حتى اشتعلت نفس المواقع ونفس الأشخاص بترويج الإشاعات حول علاقة الأطباء الإماراتيين بالموساد وعن الدور التجسسي للمستشفى الميداني الإماراتي لصالح إسرائيل. هذا الفريق ألغى إسرائيل من حساباته، وكان هجومه على الدول العربية والأنظمة العربية والأحزاب العربية، هي الحرب التي يخوضها في الدفاع عن غزة في مواجهة جيش الاحتلال الصهيوني. وإذا كان توفيق عكاشة هو بطل الفريق الأول، فلم يعدم الفريق الثاني (العكاكيش)، فانبرى أكثر من إعلامي في الجزيرة لمحاربة الدول العربية، وخصوصا مصر، مثل أحمد منصور وجمال ريان وغيرهما. والمشكلة الخطيرة التي يمثلها الفريق الثاني أن بعض أبطاله هم فلسطينيون، وأن خطابهم يستدرج أنصارا للفريق الأول فيبدو موقف الفريق الأول في مراحل متأخرة وكأنه ردة فعل على خطاب الفريق الثاني. وهكذا تضعف القضية الفلسطينية، شعبويا، بين الجدال والسجال والمزايدات وافتعال البطولات الوهمية.وغالبا ما كنا نقلل من تأثير التخاذل الرسمي للأنظمة العربية الحاكمة في دعم القضية الفلسطينية بالاحتفاء بالمواقف الشعبية التي تعلن دائما ألا مساومة على تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وألا مكان للتطبيع مع إسرائيل حتى وإن رفعت أكثر من دولة عربية علم الكيان الصهيوني فوق أي مكتب أو بناية على أراضيها. اليوم وبعد أن بدأت عاصفة الربيع العربي الرملية تطرح رؤيتها المعتمة، فإن علينا الحذر من أجندات (عكاكيش) العرب وتحييد القضية الفلسطينية عن كل الحالات العربية المفككة والمتأزمة والمحبطة أو المتآمرة. فدور (العكاكيش) تشتيت أنظارنا عن عدونا الحقيقي وعن (حلفائه الرسميين) بانتهاج الكذب والفبركة والألفاظ البذيئة لشحن عواطف الجماهير في اتجاه التفكك العربي وتفريغ القضية الفلسطينية من بعدها العربي القومي كي لا تكون قضية العرب الأولى والمُجْمع عليها شعبياً وجماهيرياً.