رغم أن القيمة العادلة للإرهاب والتطرف والخلافات المذهبية صفر، لأن قيم أصولها الأخلاقية صفر؛ إلا أنها لم تعد تقاس في سوق تداول العلاقات الدولية بقيمتها الأخلاقية، بل بمردودها وتأثيرها على المشهد الإقليمي، وفيما تتخبط الحكومة المركزية في بغداد في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» أصبح الإرهاب والطائفية صناديق استثمارية واعدة في العراق، وعملية مربحة نظير تشغيل هذه الأصول؛ فهي أسرع وأكثر فعالية من الجهد الدبلوماسي المضني سواء في العواصم العربية أو في أروقة الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف، بل إنها أسرع في تحقيق النتائج من التلويح بقوات الردع العسكرية التي يأخذ إعدادها وإيصالها لدرجة الجاهزية لسنوات عدة وأموال طائلة، وخير مثال على ذلك القصور تردد أوباما في دعم المالكي، حليفه الاستراتيجي بغطاء جوي.لقد أصبحت «داعش» أحدث الأدوات وأكثرها جاذبية وفقاً لمعايير النزاعات الراهنة، حتى إنه من الصعوبة أن تلوم فتية من الخليج والمغرب العربي والصومال واليمن من الانضمام لهذا التنظيم، أما سر بقائه فلا يعود لمهنية القائمين عليه بمقاييس عسكرية بقدر ما يعود لقدرة التنظيم نفسه على تجديد شكله الخارجي كل بضع سنوات، فقد كان تنظيم القاعدة في العراق عشائري النسيج يردد المهووسون به أبيات جنائزية:بالله اذا انــــك رايـــــح الـفـلـوجــةسلم على ابو مصعب الزرقـاويلـبـى عـيــون الـمـاجـده المغـنـوجـهبـنـتٍ نسيـبـه واخــت ذيــبٍ عـــاويفـلــت جدايـلـهـا كـمــا الـمـرجـوجـهوطـلـت بـوجـه لـكـل زيـــن حـــاويتـلـفـح عبايـتـهـا بـوســط الـهـوجــهبين النشامى والرصـاص الضـاويلكن حين قتل أبومصعب الزرقاوي، زعيم تنظيم القاعدة في العراق، تشرد أتباعه لعدم انتمائهم لمحيطهم العراقي، ولوقوعهم بين نيران معسكر فيكتوري الأمريكي والصحوات العراقية، فغير التنظيم اسمه ثلاث مرات ليستقر في ربيع 2013 على «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ولأن الخليجيين يحظون بتمثيل جيد في «داعش» فقد يتوسع التنظيم الشرير للخليج والجزيرة العربية، وقد يمد ذراعه لرفاقه في اليمن. لقد عادت بذرة «داعش» للحياة بفضل الجو المظلم الموبوء المثقل بالنفس الطائفي الذي وفره الأسد والمالكي، فعلى الطرف الآخر من العراق تقابل «داعش» دعوة التعبئة الطائفية الفجة التي أطلقها المالكي لبناء الجيش البديل على نسق الحرس الثوري الإيراني، وإعلانه التعبئة العامة وتسليح كل من يرغب بالتطوع لمقاتلة هؤلاء المسلحين من «داعش» أو من الثائرين العراقيين على حكمه، ورغم إنكار المالكي لقضية «الجيش البديل» إلا أن احتفاظه بمنصب وزير الدفاع ثم قيامه بحملة تطهير للجيش، والتي تخلص خلالها من كل من يشك في عدم ولائهم له، خصوصاً الضباط السنة، دليل دامغ على قرب ظهور ميليشيات الجيش البديل، والتي ستنظم إليها فصائل كحزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وغيرها.لقد جمعت رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بالخليجيين علاقة مرتبكة عمدها بهجومه الأخير على معظم العواصم الخليجية، مما يعني أن جيشه البديل لو نجح في الأنبار والرمادي فسيتحول إلينا دون تردد بأنشطته المشابهة للحرس الثوري الإيراني، خصوصاً أن الجيش النظامي العراقي قد تم ترويضه على الانسحابات الفوضوية من مسرح عمليات الكويت 1990 ومن مطار بغداد 2003 وأخيراً من الموصل 2014. بل إن المرجع الشيعي الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني دعى المتطوعين العراقيين لمقاتلة «داعش»، مما يعني انكشاف شرعية الجيش العراقي النظامي قانونياً ودينياً لدى قطاع كبير من العراقيين، وما ذلك إلا خطوة لتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق يتقاسمها السنة والشيعة والأكراد، مما يجعل خيارنا الوحيد لحفظ الحدود المرتبكة للعلاقات بيننا وبين العراق هو الاستثمار في تنظيمات معتدلة بعد كسر مصطلحات المعنى المتعارف عليه للإرهاب والمذهبية، أو إحياء علاقات احترام متبادل مع من يتمتع بإدراك جاد لمحيطة وبيئته الإقليمية من زعماء آخرين كعمار الحكيم أو مقتدى الصدر بدل المالكي.