لا يتعين عليك أن تكون رسّام خرائط لكي تعرف أن العراق وبلاد الشام تشكل حزاماً متصلاً في شمال شبه جزيرة العرب. وبدرجة قريبة من ذلك اعتبر وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر في أواخر الحرب الباردة أن أثيوبيا واليمن الجنوبي شكلت حزاماً شيوعياً في جنوب الخليج. تلك الأحزمة لم تشكل عائقاً حين خرج أجدادنا من جزيرتهم ليضعوا الفواصل والنقاط على حروف التاريخ. لكن الأحزمة نفسها عادت في القرن العشرين غير مستساغة استراتيجياً، ربما لكون العرب على طرفيها كانوا منضوين تحت هياكل أمنية متنافرة. رجوعاً إلى التاريخ نجد أن بريطانيا رسمت حزام أمن نقاطه الاستراتيجية في السويس وباب المندب، وعدن وهرمز والكويت وبوشهر وتلك النقاط هي ما عرف لدى الاستراتيجيين بــ «مفاتيح الشرق». لذا كان هلع لندن كبيراً حين وصل للخليج الطراد الحربي الروسي «فارياج Varyag» عام1901، مخترقاً ذلك الحزام. كما كان هلعهم أشد حين وصلت بعثة ألمانية للكويت لإيصال خط برلين - بغداد الذي يخترق العمق في حزام الأمن البريطاني. وحتى منتصف القرن العشرين كان «المجد للقوة البحرية» كما قال «الفرد ماهان A.Mahan» ثم تراجع ذلك الفهم وأصبحت القوة الجوية هي الذراع الطويل. لذا أقام البريطانيون خلال الحرب العالمية الثانية حزام أمن لمنع طائرات هتلر «Luftwaffe» من الوصول للخليج في طريقها للهند، وكان الحزام الدفاعي في الشعيبة بالعراق وفي الكويت والبحرين والشارقة. لكن ترك الأفق الغربي مفتوحاً بدون حزام سمح لموسوليني بإرسال طائراته من أرتيريا في عملية جريئة فقصفت البحرين والظهران وعادت سالمة. وفي زمن الحرب الباردة، ولمنع الشيوعية من التسرب للرمال الدافئة قرب حقول النفط، أقام الغرب بناء على «مبدأ ايزنهاور Eisenhower Doctrine» حزاماً أمنياً في 1957، وكان الخليج جزءاً من هذا الحزام بالإضافة إلى باكستان وإيران. وقد بقي الحزام ضد الشيوعية مشدوداً حتى مزقته الثورة الإيرانية عام 1979، ولتقوم الثورة نفسها بتسويق مشروع «الحزام الشيعي» الممتد من إيران إلى البحر المتوسط. لكن عقدين من الزمن مضيا قبل أن يتحول المشروع من «فوبيا» إلى ما يقترب من الحقيقة حين عقد المالكي حلفاً استراتيجياً مع طهران وعين الجنرال قاسم سليماني مندوباً سامياً في بغداد، فما كان من الأخير إلا أن مارس عسكريته وطبق مبدأ الإحاطة، فحرك الحوثيين لخلق حزام جنوبي كالذي حذر منه هنري كيسنجر قبل عقدين ونصف. فهل مازال الحزام الشيعي قائماً كمشروع؟ أم عاد للتواري كجزء من الفوبيا الإيرانية؟ يجيبنا هنري كيسنجر نفسه محذراً في 10 سبتمبر 2014 من «خطورة الحزام الشيعى الذي يعطي فرصة لإعادة إنشاء الامبراطورية الفارسية، ويمنح إيران قوة هائلة من الناحية الاستراتيجية»، كما اعتبر أن «إيران تمثل مشكلة أكبر من «داعش»، الذين هم مجموعة من المغامرين بأفكار عنيفة». ويتبادل مقوضي الأمن في الخليج أحزمتهم فتستلم مهمة إحاطتنا الجماعات الإرهابية بـ «الحزام الجهادي» وهو من الخطورة لجعل أوباما المتردد يرسل الدبابير «FA-18 Hornet» لأعشاش خفافيش داعش. الحزام الجهادي يستمد قوته من داعش كقدوة فداعش الوحيد الأكثر قدرة على تنفيذ أهدافه، وجرأته في الغزو والاحتلال والإبادة والإعدامات يتوجها جرأة غريبة في إعلانه «الخلافة الإسلامية»، مما يجعله المسيطر على الحركات الجهادية بفكره وأمواله. فنصل لقناعة أن «داعش» نوع من «إرهاب ما بعد القاعدة» يستدعي «إجراءات ما بعد أوباما». غاية القول أن الخليج عاش خارج حزام تهديد ليدخل آخر مشدود أكثر مما سبقه، تاركاً آثاره في خاصرتنا الضعيفة. وقد لا يكون من الرصانة الاستراتيجية طرح فكرة «تحزيم المعدة» لإضعاف شهية الغرب الذي يقيم الأحزمة ليلتهم جزءاً من دخلنا القومي.فما الحل؟أن نحزم أنفسنا بأنفسنا، فمشروع «حزام التعاون» قوي وفعال كلفنا 80 مليون دولار، ويربط منذ 2001 مراكز قيادات القوات الجوية والدفاع الجوي بدول المجلس آلياً بشبكة إنذار مبكر. وقد آن الأوان لخلق أحزمة أمنية خليجية مثيلة للقوات البرية والبحرية الخليجية لتحل محل الأحزمة الأمنية الأجنبية.* المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج