منذ ليلة سقوط محافظة عمران بيد الحوثيين وقد صار كل شيء غير مفهوم في اليمن. ذلك السقوط الذي أذهل كل من راقبه بصمت الحكومة وتفرج الجيش ودعم القبائل لحراك الحوثي ضد الدولة. سقطت عمران وانتفض المارد الحوثي مهدداً صنعاء، وصار كل حديث عن محدودية حجم الحوثيين وقلة نفوذهم وانقطاعهم عن النسيج اليمني وتابعيتهم لإيران حديثاً تقف أمامه ألف علامة استفهام. ثم دخل الحوثيون صنعاء من أبوابها الحصينة كما يدخل الزائر إلى المدينة القديمة ويخرج في المساء وقد اشترى من أسواقها العتيقة كل ما كان يرغب فيه من بن وعسل وأحجار كريمة.كانت ليلة سقوط صنعاء أشبه بمسرحية سمجة سيخجل التاريخ أن يسجلها في صفحات ذلك البلد العظيم الذي طالما وقف في وجه كل المحن أبياً شامخاً. وكانت إرهاصات السقوط وتداعياتها عبارة عن حبكات مفككة لا ترقى لمستوى انفراط العقدة. ففشل سياسات الرئيس عبدربه منصور في إعادة بناء اليمن بعد الثورة، ولجوء حكومته إلى رفع الدعم الحكومي عن الوقود ورفع الأسعار إلى حد لا يطيق تكاليفه شعب يقبع ما يزيد عن 50% منه تحت خط الفقر أدت إلى ما يقال عنه «ثورة» الحوثي التي التف حولها الشعب وأيدتها معظم القبائل. كما أن اختطاف جماعة التنظيم الإخواني في اليمن للسلطة بعد الثورة ممثلة في الجنرال علي محسن الأحمر وحزب الإصلاح اليمني أدى إلى نقمة اليمنيين عليهم وخصوصاً على زعاماتهم من آل الأحمر. لكن كل هذا لا يعني أن تقف الحكومة مكتوفة الأيدي وهي ترى الغضب الشعبي ينمو في ظل موجات ما يقال عنه «ثورة جديدة». ولا يعني أن يقف الجيش متفرجاً على ميليشيا الحوثي وهي تتقدم نحو صنعاء ويترك لها العاصمة لقمة سائغة دون مقاومة. كان الوضع أشبه بالأضحوكة، الحوثي يحتل مقر التلفزيون الرسمي ثم يسلمه للداخلية، ويحتل مقر البنك اليمني المركزي ثم يسلمه للداخلية، ويحتل المقرات العسكرية ثم يعيدها للجيش بعد أن يستولي على الذخيرة، وهو يفسر سلوكه بأن ميليشياته ليست إلا لجان شعبية تحمي العاصمة من اللصوص ومن جموع الغاضبين. والأكثر سخرية أن يصدر وزير الداخلية توجيهات لعناصره بعدم الاشتباك مع الحوثيين والتعامل معهم كأصدقاء. لتنتهي الليلة قبل منتصفها باستقالة الحكومة الحالية وتوقيع اتفاق شراكه هش بين الحوثيين ورئيس الجمهورية.بدا الأمر واضحاً في غمرة غموضه، ثمة طبخة أعدت بليل وكان الطبق الرئيسي فيها رأس جماعة الإخوان في اليمن. وأحد الطهاة المهرة كان الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي تشير الأخبار إلى تسليمه جماعة الحوثيين معلومات لوجستية وعسكرية وأمنية دقيقة مكنتهم من احتلال عمران وصنعاء في جولة سياحية مريحة لينتقم ممن كانوا أهم رموز الثورة التي قامت ضده. وبصمات أصابع الاتفاق الإقليمي المعادي للإخوان كانت واضحة ودالة بمباركة دول الخليج لتوقيع اتفاق السلم والشراكة. وللعلم فإن اليمن تعد من أهم المواقع الإخوانية في الوطن العربي، حيث كان حسن البنا يخطط بدءاً أن يجعلها مقراً لتنظيمه، وحيث لجأت إليها العناصر الإخوانية القطبية إبان الحملة الأمنية التي كانت مستشرية ضدهم في الستينيات والسبعينيات ومن بينهم أعضاء مكتب الإرشاد المصري الحالي الذين وصلوا إلى سدة الحكم في مصر. والتنظيم الإخواني في اليمن يمتلك المعسكرات الكبيرة لعمليات التدريب ويمتلك جامعة الإيمان التي يديرها عبدالمجيد الزنداني والتي تصنف بأنها إحدى البؤر الإرهابية في الوطن العربي. ولذلك فإن تصفية التنظيم في اليمن يعد مرحلة منظمة من مراحل إنهاء نفوذهم بعد أن سقطوا عن حكم مصر وفشلت «ثورتهم» في سوريا وطردوا من قطر.وعلى الرغم من اقتناع الكثيرين بأن التنظيم الإخواني يعد صاحب مشروع سلطوي خطير في هذا الوقت متحالفاً مع الغرب ومتضامناً مع أجنداته الاستعمارية، غير أن ذلك لا يبرر أن يكون البديل عنه التنظيم «الحوثي» الإيراني في بلد مثل اليمن يحتل مكانة جيوسياسية خطيرة. فطموح الحوثيين في حوار التوافق الوطني الذي تمخض عن تقسيم اليمن إلى أقاليم هو أن يتم منحهم إقليماً خاصاً بهم يمتد إلى البحر الأحمر من أجل تأسيس ميناء لهم. وبهذا تكون إيران قد أطبقت نفوذها على منفذين بحريين مهمين هما مضيق هرمز ومضيق باب المندب.العبث بالتوازنات السياسية لا يقل خطورة عن العبث بالتوازن البيئي الطبيعي، فحين تقضي على قطيع القطط التي تضايقك في الحقل، فإن جيوش الجرذان ستتفشى وتلتهم كل محصول فتخسر الحقل كاملاً. فهل فكر وكلاء «سقوط صنعاء» الذين بعثوا الحوثي ليلتهم الإخواني: كيف سيعيدون المارد الحوثي إلى قمقمه بعدما نال استحقاقاً سياسياً حقيقياً، مؤشراته التفاف جموع الفقراء حوله وتحالف القبائل معه؟ هل فكر وكلاء «سقوط صنعاء» كيف سيواجهون خطاب تلميذ حسن نصر الله في اليمن الذي حول تسلله إلى صنعاء وتسليته باللعب مع الدولة الهزيلة إلى ما يقال عنها «ثورة جديدة» تؤسس لجمهورية يمنية ثالثة يكون الحوثيون هم أقوى العناصر فيها؟بعد سقوط صنعاء تغيرت موازين القوى القديمة في اليمن وتبدلت خارطة التحالفات السابقة. وصار اليمن أشبه بلبنان لكل قوة خارجية ممثل يحارب على الجغرافيا اليمنية بالنيابة عنها. اليمن اليوم ليس يمن الأمس وأفق المجهول انفتح واسعاً على مستقبل شبه الجزيرة العربية بأكملها بعد أن صار لإيران جبل من نار في اليمن.
Opinion
ألعاب نارية خطيرة في اليمن
25 سبتمبر 2014