اعتدنا كثيراً على ازدواجية المعايير الغربية تجاه القضايا العربية حتى صارت من المسلمات، وبات هناك تحرّج كبير من مواجهتها دائماً رغم سهولة التفنيد. البحرين لم تكن بعيدة كثيراً عن ازدواجية المعايير الغربية، سواءً في العقود الماضية، أو السنوات الثلاث الأخيرة عندما بدأتها واشنطن وصارت تدعم ما تسميهم بـ (المتظاهرين السلميين)، حيث انتقدت منع السلطات البحرينية التظاهر في أوقات معينة وأماكن معينة، واعتبرت ذلك انتهاكاً للحقوق المدنية والسياسية، وانتهاكاً صريحاً لحقوق الإنسان.في الوقت نفسه، فإن واشنطن منعت المتظاهرين السلميين عندما تظاهروا ضمن حركة وول ستريت لاعتبارات الأمن الوطني، ولم تتحدث عن حقوق الإنسان والحقوق المدنية. الأمر تجاوز ذلك بكثير، حيث سمحت لنفسها باغتيال وتصفية أحد المتورطين في الاعتداء الإرهابي الذي طال ماراثون بوسطن دون أن يحظى بمحاكمة نزيهة وعادلة كتلك المحاكمات التي تطالب بها واشنطن لإرهابيي البحرين من وقت لآخر.باريس لم تكن ببعيدة عن ازدواجية المعايير بكثير، فرغم علاقاتها الوطيدة مع المنامة، فإنها دائماً ما توجه انتقادات لاذعة لحكومة البحرين، وتطالب بحرية التعبير وحرية التظاهر، وضرورة السماح للمتظاهرين (السلميين) بالخروج في الشوارع وممارسة حقوقهم المدنية بكل حرية ودون قيود أو ضوابط.بالمقابل كان مستغرباً كثيراً أن تمنع الديمقراطية الفرنسية مجرد مظاهرة دعت إليها مجموعة من الأحزاب والنقابات والجمعيات الفرنسية من أجل التعبير عن رأيهم تجاه المجازر التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة. الغريب أن الحكومة الفرنسية لم تكتف بذلك، بل وجهت الإعلام الفرنسي لتغطية أحداث غزة بشكل يدعم وجهة النظر الإسرائيلية، وهو ما أثار انتقاداً واسعاً من القوى السياسية المختلفة، وخاصة قوى اليسار التي رأت فيه تراجعاً لحريات المجتمع الفرنسي.الحالتان؛ ازدواجية المعايير في واشنطن، وفي باريس تكشفان طبيعة حقوق الإنسان، والحقوق المدنية، وحقيقة الديمقراطيات الغربية، وكيف يتم التعامل عندما تمس المصالح الوطنية وهيبة الدولة وسيادتها وأمنها واستقرارها. بل وتكشفان أن لكل ديمقراطية حدوداً وقيوداً تتحكم فيها المصالح الخاصة والعامة، وبينهما لابد من التوفيق لضمان الحد الأدنى من الأمن والاستقرار.الفوضى الخلاقة التي يشهدها الشرق الأوسط من سماتها ازدواجية المعايير، وهذه الازدواجية ضربت الدول العربية، وأصابت الغرب في مقتل، فلا مصداقية للديمقراطيات الغربية عندما تجيّر الحريات والحقوق من أجل مكاسب ومصالح خاصة.