سياسة صنع الذرائع ضد السلام !د. عادل محمد عايش الأسطلبعيداً عن التفوّهات التي أعلن بها وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" والتي توحي بأن هناك تقدماً ملموساً قد تم إحرازه في المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن مسألة الانقسام الفلسطيني كانت ولا شك، من أهم المبررات القوية التي اتبعتها إسرائيل طوال السنوات الست الماضية أمام المجتمع الدولي في التشكيك بإمكانية التوصل إلى سلام شامل مع الفلسطينيين، باعتبار أن الحالة الفلسطينية السياسية والأمنية المتناقضة بجملتها، ليس بالإمكان على الإطلاق التعويل عليها في هذا الشأن، لا سيما وأن الأراضي التي تحت السيطرة الفلسطينية، منقسمة إلى جناحين منفصلين، منذ منتصف عام 2007، وهما غير مرتبطين بجسدٍ واحد. فهناك حركات وأحزاب قوية في الضفة الغربية وعلى رأسها (حركة فنح) وهي تؤمن بجنون في المسار السلمي مع الجانب الإسرائيلي، وحتى إذا كان إلى ما لا نهاية. وأخرى في القطاع وعلى رأسها (حركة حماس) وتتبع بجنون أكبر نهج المقاومة بأشكالها ضد الاحتلال الإسرائيلي، سواء الآنيّة أو على مدار الزمن. وما يزيد الأمور تعقيداً كما في الوجهة الإسرائيلية، هو أن هذين الجناحين غير خالصين تماماً لفئةٍ معينة، ما يزيد من التناقضات والخلافات في داخلها. فهناك حماس لا زالت تنبض في أنحاء الضفة الغربية، وتعكّر صفو المزاج الفتحاوي في كل صغيرة وكبيرة، وهنا في القطاع (فتح) وأخرى تابعة لها، درجت على التعامل بالمثل أو أكثر بوسيلةٍ وبأخرى، ما يجعل التوصل - لدى النظر الإسرائيلي- إلى إتمام العملية السلمية، أمراً بالغ العسر والتعقيد، وترتيباً على ذلك فإن إسرائيل وببساطة لا تعوّل كثيراً على الرئاسة الفلسطينية في شأن توقيع اتفاقية تنهي الصراع، لا سيما في ظل تواصل جهات عديدة في إسرائيل التشكيك في شرعيّة الرئيس "أبومازن" وتمثيله للفلسطينيين، مستغلة بذلك حالة الانقسام السائدة والمتزايدة مع مرور الوقت. وقد كانت كافة التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية التي كان يتم الدفع بها أمام مجلس الوزراء الاسرائيلي المصغر (الكابنيت) دائماً وحتى الأسبوع المنصرم تساند هذا الاعتقاد باعتباره نهائي. وعليه فإن لديهم استمرار الانقسام الفلسطيني وعدم تمثيل عباس لأهالي القطاع، يحول دون توقيع اتفاق سلام نهائي مع الفلسطينيين. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، فقد وضعت إسرائيل يدها على صدرها منذ الوهلة الأولى لرؤيتها اندلاع موجة الربيع العربي، التي بددت الأوضاع المستقرة في المنطقة منذ انطلاقها من تونس أواخر 2010، لكن سرعان ما اغتمتها إسرائيل، لتجعل منها مبرراً آخر تلوح به أمام نفس المجتمع، حيث خرجت أقوى من أي وقت مضى، وتجلّى في تحذير حكومة إسرائيل بلسان رئيس وزرائها "بنيامين نتانياهو" والعديد من وزرائه، من أن المنطقة في هذه المرحلة، أي مرحلة الربيع العربي، وعلى الرغم من أنها أطاحت بأعداء إسرائيل التقليديين أو قلّص من تهديدهم بشكل كبير، إلاّ أنها لا زالت تعج بالأخطار التي تهدد إسرائيل أكثر من أي وقتٍ مضي، ثمّ داوموا على التحذير من التقلبات التي تواصل العصف بالمنطقة والتي قد تفاجئ إسرائيل كما فوجئت بالإطاحة السريعة لأنظمة حكم قوية وخاصةً نظام "حسني مبارك". ما جعل القيادة في إسرائيل متنبّهً أكثر من مغبة الاستعجال بالدخول في اتفاقات نهائية أو مساعٍ دبلوماسية اصطناعية في محاولة لتغيير الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط. لذلك فإن إسرائيل لا تعرف بالضبط مع من يمكن الحصول على السلام الذي تنشده، فعلى المستوى الفلسطيني فهي عديمة الثقة من حيث مسألة أن تقيّد نفسها باتفاقات سلام غير مضمونة ولو لدقيقة واحدة، وليس هناك ضامن آخر. وعلى المستوى العربي المنقسم بين شعوبه التي لا تزال في غالبيتها تنظر إلى إسرائيل كقوة احتلال غاشمة تهدد أمن واستقرار المنطقة برمّتها. فهي لا تستطيع تحديد أيّة جهة تستطيع الركون إليها. فمن جهة مصر إلى الجنوب هناك أزمة. ومن جهة أخرى، هناك الوضع الإشكالي في سوريا ولبنان وفي الشرق الوضع الأردني المتقلّب والذي لم يعد مستقراً كما في أوقات سابقة، إلى جانب التهديد الأكبر وهو التهديد الإيراني، الذي يستطيع تغيير الوضع ضد إسرائيل وإن في المستقبل على الأقل.وبرغم العلم بالوضع الذي قد يتعقّد أكثر مستقبلاً، بسبب عدم وجود الاستقرار في ربوع المنطقة، ترفض السياسة الإسرائيلية الانفصال عن عادتها المعيبة وهي التظاهر بالسعي إلى السلام من دون تقديم نوايا تنمّ على ذلك، ويصعب الأمر أكثر، حين تحدّثها عن الأمور التي يتوجب الأخذ بها، فيما يتعلق بالأمن الإسرائيلي، وبما يتجاوب مع كافة التحديات الأمنية قبل الدخول إلى أي اتفاق، وهي تعلم أن لا أحد يستطيع منحها تلك الضمانات بسبب أنها غير قابلة للتحقيق. لهذا فهي ترى أن الضامن الوحيد والأمثل، هو الحفاظ على أن تظل إسرائيل قوية ذاتياً، بما فيه الكفاية، ودون الركون إلى جهات أجنبية بما فيها الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي الأكبر، وأن عليها مضاعفة هذه القوة أضعافاً متتالية، وضرورة الإبقاء على هذه الحالة العدائية والابتعاد قدر الإمكان عن مسالك السلام. لاسيما وأن هناك اتفاقات عربية – عربية وهي لم تكن ناجحة في يومٍ ما. والتجربة الأهم التي مرّت من أمام عينيها واستخلصت منها العبر، وهي أن الرئيس العراقي "صدام حسين" قام بتمزيق الاتفاقية مع إيران وألقاها من وراء ظهره، عندما رأى أن هناك فرصة لتعديلها حسب الرؤيا العراقية.كثيرة هي الدول المهمّة وخاصةً الولايات المتحدة، مقتنعة إلى حدٍ كبير بالحجج الإسرائيلية، ولكنها مقتنعةً أيضاً وبنفس القوة من أنه يجب أن يتواجد حل ما، وإن كان في إطارٍ مفتوح، الهدف منه التقليل إلى الحد الأدنى من تعقيدات القضية، من أجل تسهيل الحياة على مستوياتها محلياً وإقليمياً ودولياً، ومن هنا تبدأ في الحقيقة مساعي "كيري" الذي غادر المنطقة للتو.وبناءً على ذلك، فإن إسرائيل مهما أعلنت بأنها تسعى إلى السلام، فإنها بالإطلاق لا تفضّل الاستمرار أكثر في شأن المفاوضات مع الفلسطينيين، وبنفس الدرجة لا تريد التقدّم أكثر نحو الرغبات العربية في تسمين علاقاتها معها، أو نحو عمليات تطبيعيّة أخرى، بسبب أنها لا تقل في نظرها، ضرراً عن العداوة نفسها، وهي تجد نفسها أكثر راحة عند اقتصارها الأمور على تلك التفاهمات التي تم إنجازها من قبل.خانيونس/فلسطين6/12/2013